الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }

عطف على جملةولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس } الأعراف 179 الآية، والمقصود التنويه بالمسلمين في هديهم واهتدائهم، وذلك مقابلة لحال المشركين في ضلالهم، أي عرّض عن المشركين، فإن الله أغناك عنهم بالمسلمين، فما صْدَقُ «الأمة» هم المسلمون بقرينة السياق كما في قول لبيد
ترَّاك أمكنة إذا لم أرضها أو يعتلقُ بَعْضَ النفوس حِمامُها   
يريد نفسه فإنها بعض النفوس. روى الطبري عن قتادة قال بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية " هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها " وقوله { ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون } وبقية ألفاظ الآية عرف تفسيرها من نظره المتقدمة في هذه السورة. والذين كذبوا بالآيات هم المشركون الذين كذبوا بالقرآن، وقد تقدم وجه تعدية فعل التكذيب بالباء ليدل على معنى الإنكار عند قوله تعالىقل إني على بينةٍ من ربي وكذبتم به } في سورة الأنعام 57. والاستدراج مشتق من الدّرَجة ــــ بفتحتين ــــ وهي طبقة من البناء مرتفعة من الأرض بقدر ما ترتفع الرِّجْل للارتقاء منها إلى ما فوقها تيسيراً للصعود في مثل العلو أو الصومعة أو البرج، وهي أيضاً واحدة الأعواد المصفوفة في السلم يرتقى منها إلى التي فوقها، وتسمى هذه الدرجة مرقاة، فالسين والتاء في فعل الاستدراج للطلب، أي طلب منه أن يتدرج، أي صاعداً أو نازلاً، والكلام تمثيل لحال القاصد إبدال حال أحد إلى غيرها بدون إشعاره، بحال من يطلب من غيره أن ينزل من درجة إلى أخرى بحيث ينتهي إلى المكان الذي لا يستطيع الوصول إليه بدون ذلك، وهو تمثيل بديع يشتمل على تشبيهات كثيرة، فإنه مبني على تشبيه حُسن الحال برفعة المكان وضده بسفالة المكان، والقرينة تعيّن المقصود من انتقال إلى حال أحسن أو أسوا. ومما يشير إلى مراعاة هذا التمثيل في الآية قوله تعالى { من حيث لا يعلمون } ولما تضمن الاستدراج معنى الإيصال إلى المقصود علق بفعله مجرور بمن الابتدائية أي مبتدئاً استدراجهم من مكان لا يعلمون أنه مفض بهم إلى المبلغ الضار، فــــ { حيث } هنا للمكان على أصلها، أي من مكان لا يعلمون ما يفضي إليه، وحذف مفعول يعلمون لدلالة الاستدراج عليه، والتقدير لا يعلمون تدرجه، وهذا مؤذن بأنه استدراج عظيم لا يظن بالمفعول به أن يتفطن له. والإملاء إفعال وهو الإمهال، وهمزة هذا المصدر منقلبة عن واو، مشتق من الملاوة مثلثة الميم، وهي مدة الحياة يقال أملاه وملاه إذا أمهله وأخّره، كلاهما بالألف دون همز فهو قريب من معنى عَمره، ولذلك يقال في الدعاء بالحياة ملاك الله. واللام في قوله { لهم } هي اللام التي تسمى لام التبيين، ولها استعمالات كثيرة فيها خفاء ومرجعها إلى أنها يقصد منها تبيين اتصال مدخولها بعامله لخفاء في ذلك الاتصال، فإن اشتقاق أملى من الملو اشتقاق غير مكين، لأن المشتق منه ليس فيه معنى الحدث، فلم يجيء منه فعل مجرد، فاحتيج إلى اللام، لتبيين تعلق المفعول بفعله.

السابقالتالي
2