الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ }

عطف على جملةواتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } الأعراف 175، والمناسبة أن صاحب القصة المعطوف عليها انتقل من صورة الهدى إلى الضلال، لأن الله لما خلقه خلقه ليكون من أهل جهنم، مع مالها من المناسبة للتذييل الذي ختمت به القصة وهو قولهمن يهد الله فهو المهتدي } الأعراف 178 الآية. وتأكيد الخبر بلام القسم وبقد لقصد تحقيقه لأن غرابته تُنزل سامعه خالي الذهن منه منزلةَ المتردد في تأويله، ولأن المخبرَ عنهم قد وصفوا بــــ { لهم قلوب لا يفقهون بها } ــــ إلى قوله ــــ { بل هم أضل } ، والمعني بهم المشركون، وهم ينكرون أنهم في ضلال ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وكانوا يحسبون أنهم أصحاب أحلام وأفهام، ولذلك قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم في معرض التهكمقلوبنا في أكنةٍ مما تدعونا إليه وفي آذاننا وَقْرٌ } فصلت 5. والذرْء الخلق وقد تقدم في قولهوجعلوا لله مما ذَرَأ من الحرث والأنعام نصيباً } في سورة الأنعام 136. واللام في { لجهنم } للتعليل، أي خلقنا كثيراً لأجل جهنم. وجهنم مستعملة هنا في الأفعال الموجبة لها بعلاقة المسببية، لأنهم خلقوا لأعمال الضلالة المفضية إلى الكون في جهنم، ولم يُخلقوا لأجل جهنم، لأن جهنم لا يقصد إيجاد خلق لتعميرها، وليست اللام لام العاقبة لعدم انطباق حقيقتها عليها، وفي «الكشاف» جعلهم لاغراقهم في الكفر، وأنهم لا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار، مخلوقين للنار دلالة على تمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار اهــــ، وهذا يقتضي أن تكون الاستعارة في { ذرأنا } وهو تكلف راعى به قواعد الاعتزال في خَلق أفعال العباد وفي نسبة ذلك إلى الله تعالى. وتقديم المجرور على المفعول في قوله { لجهنم كثيراً } ليظهر تعلقه بــــ { ذرَأنَا }. ومعنى خلق الكثير لاعمال الشر المفضية إلى النار أن الله خلق كثيراً فجعل في نفوسهم قُوَى من شأنها إفساد ما أودعه في الناس من استقامة الفطرة المشار إليها في قولهوإذْ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } الأعراف 172 وهي قوى الشهوة والغضب فخلقها أشد سلطانا على نفوسهم من القوة الفطرية المسماة الحكمة، فجعلت الشهوةُ والغضب المسمّيْن بالهوى تغلب قوة الفطرة، وهي الحكمة والرشاد، فترجح نفوسهم دواعيَ الشهوة والغضب فتتبعها وتُعرض عن الفطرة، فدلائلُ الحق قائمة في نفوسهم، ولكنهم ينصرفون عنها لغلبة الهوى عليهم فَبِحَسَب خلقة نفوسهم غير ذات عزيمة على مقاومة الشهوات جُعلوا كأنهم خلقوا لجهنم، وكأنهم لم تخلق فيهم دواعي الحق في الفطرة. والجن خَلْق غير مَرْئي لنا، وظاهر القرآن أنهم عقلاء، وأنهم مطبوعون على ما خلقوا لأجله من نفع أو ضر، وخير أو شر، ومنهم الشياطين، وهذا الخلق لا قبل لنا بتفصيل نظامه ولا كيفيات تلقيه لمراد الله تعالى منه.

السابقالتالي
2 3