الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ }

جملة { فخلف } تفريع على قولهوقطّعناهم } الأعراف 168 إن كان المراد تقطيعهم في بلاد أعدائهم وإخراجهم من مملكتهم، فتكون الآية مشيرة إلى عودة بني إسرائيل إلى بلادهم في عهد الملك كورش ملك الفرس في حدود سنة 530 قبل الميلاد، فإنه لما فتح بلاد أشور أذن لليهود الذين أسرهم بختنصر أن يرجعوا إلى بلادهم فرجعوا، وبنوا بيت المقدس بعد خرابه على يد نحميا وعزرا كما تضمنه سفر نحميا وسفر عزرا، وكان من جملة ما أحيوه أنهم أتوا بسفر شريعة موسى الذي كتبه عزرا وقرأوه على الشعب في أورشليم فيكون المراد بالخلْف ما أوّله ذلك الفلّ من بني إسرائيل الذين رجعوا من أسر الآشوريين. والمراد بإرث الكتاب إعادة مزاولتهم التوراة التي أخرجها إليهم عزرا المعروف عند أهل الإسلام باسم عُزَير، ويكون أخذهم عرض الأدنى أخذَ بعض الخلف لا جميعه، لأن صدر ذلك الخلف كانوا تائبين وفيهم أنبياء وصالحون. وإن كان المراد من تقطيعهم في الأرض أمماً تكثيرَهم والامتنانَ عليهم، كان قوله { فخلف من بعدهم خلف } تفريعاً على جميع القصص المتقدمة التي هي قصص أسلافهم، فيكون المراد بالخلْف من نشأ من ذرية أولئك اليهود بعد زوال الأمة وتفرقها، منهم الذين كانوا عند ظهور الإسلام، وهم اليهود الذين كانوا بالمدينة، وإلى هذا المعنى في الخلْف نحا المفسرون. والخلْف ــــ بسكون اللام ــــ من يأتي بعد غيره سابِقِه في مكان أو عمل أو نسل، يُبينه المقام أو القرينة، ولا يغلب فيمن يخلف في أمر سيء، قاله النضر بن شُميل، خلافاً لكثير من أهل اللغة إذ قالوا الأكثر استعمال الخلْف ــــ بسكون اللام ــــ فيمن يخلف في الشر، وبفتح اللام فيمن يخلف في الخير، وقال البصريون يجوز التحريك والإسكان في الرديء، وأما الحسن فبالتحريك فقطْ. وهو مصدر أريد به اسم الفاعل أي خَالِف، والخَلْف مأخوذ من الخَلَفْ ضد القدّام لأن من يجيء بعد قوم فكأنه جاء من ورائهم، وَلاَ حَد لآخر الخلف، بل يكون تحديده بالقرائن، فلا ينحصر في جيل ولا في قرن، بل قد يكون الخلف ممتداً، قال تعالى بعد ذكر الأنبياءفخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات } مريم 59 فيشمل من خلفهم من ذرياتهم من العرب واليهود وغيرهم، فإنه ذكر من أسلافهم إدريسَ وهو جد نوح. و { ورثوا } مجازٌ في القيام مقام الغير كما تقدم في قوله تعالىونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } في هذه السورة 43 وقوله فيهاأو لم يهد الذين يرثون الأرض من بعد أهلها } الأعراف 100 فهو بمعنى الحلفية، والمعنى فخلف من بعدهم خلف في إرث الكتاب، وهذا يجري على كلا القولين في تخصيص الخلف، لأنه بيان للفعل لا لاسم الخلف.

السابقالتالي
2 3 4