الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }

غُيّر أسلوب الخبر عن بني إسرائيل هُنا فابتدىءَ ذِكرُ هذه القصة بطلب أن يسأل سائل بني إسرائيل الحاضرين عنها، فنعلم من ذلك أن لهذه القصص الآتية شأناً غير شأن القصص الماضية، ولا أحسب ذلك إلاّ من أجل أن هذه القصة ليست مما كُتب في توراة اليهود ولا في كتب أنبيائهم، ولكنها مما كان مروياً عن أحبارهم، ولذلك افتتحت بالأمر بسؤالهم عنها، لإشعار يهود العصر النبوي بأن الله أْطلع نبيّه عليه الصلاة والسلام عليها، وهم كانوا يكتمونها، وذلك أن الحوادث التي تكون مواعظ للأمة فيما اجترحته من المخالفات والمعاصي تبقي لها عَقب الموعظة أثراً قد تعيّر الأمة به، ولكن ذلك التعيير لا يؤبه به في جانب ما يحصل من النفع لها بالموعطة، فالأمة في خُوَيْصّتها لا يهتم قادتها ونصحاؤها إلاّ بإصلاح الحال، وإن كان في ذكر بعض تلك الأحوال غضاضة عندها وامتعاض، فإذا جاء حكم التاريخ العام بين الأمم تناولتْ الأمم أحوال تلك الأمة بالحكم لها وعليها، فبقيت حوادث فلتاتها مغمزاً عليها ومعرّة تُعير بها، وكذلك كان شَأن اليهود لما أضاعوا مُلكهم ووطنهم وجاوروا ــــ أمماً أخرى فأصبحوا يكتمون عن أولئك الجيرة مَسَاوي تاريخهم، حتى أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم فعلّمه من أحوالهم ما فيه معجزة لأسلافهم، وما بقي معرّة لأخلافهم، وذلك تَحدّ لهم، ووخز على سوء تلقيهم الدعوة المحمدية بالمكر والحسد. فالسؤال هنا في معنى التقرير لتقريع بني إسرائيل وتوبيخهم وَعد سوابق عصيانهم أي ليس عصيانهم إياك ببدع، فإن ذلك شنشنة قديمة فيهم، وليس سؤالَ الاستفادة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلم بذلك من جانب ربه تعالى، وهو نظير همزة الاستفهام التقريري فوزان { وأسألهم عن القرية } وزان أعدَوْتُم في السَبْت، فإن السؤال في كلام العرب على نوعين أشهرهما أن يسأل السائِل عما لا يعلمه ليعلمه، والآخران يسأل على وجه التقرير حين يكون السائِل يعلم حصول المسؤول عنه، ويعلم المسؤول أن السائل عالم وأنه إنما سأله ليقرره. وجملة { واسألهم } عطف على جملةوإذْ قيل لهم اسكنوا هذه القرية } الأعراف 161 واقعة معترضة بين قصص الامتنان وقصص الانتقام الآتية في قولهوقَطّعنْاهم } الأعراف 168، ومناسبة الانتقال إلى هذه القصة إن في كلتا القصتين حديثا يتعلق بأهل قرية من قرى بني إسرائيل. وتقدم ذكر القرية عند قوله تعالىولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } الآية من سورة البقرة 65. وهذه القرية قيل أْيلة وهي المسماة اليوم العقبة وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر قرب شبه جزيرة طور سينا، وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر، وكانت من مملكة إسرائيل في زمان داود عليه السلام، ووصفت بأنها حاضرة البحر بمعنى الاتصال بالبحر والقرببِ منه، لأن الحضور يستلزم القرب، وكانت أيلة متصلة بخليج من البحر الأحمر وهو القلزم.

السابقالتالي
2 3