الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

هذه الجملة معترضة بين قصص بني إسرائيل جاءت مستطردة لمناسبة ذكر الرسول الأمي، تذكيرً لبني إسرائيل بما وعد الله به موسى عليه السلام، وإيقاظاً لأفهامهم بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو مِصداق الصفات التي علمها الله موسى والخطاب بــــ { يا أيها الناس } لجميع البشر، وضمير التكلم ضمير الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتأكيد الخبر بــــ إن باعتبار أن في جملة المخاطبين منكرين ومترددين، استقصاء في إبلاغ الدعوة إليهم. وتأكيد ضمير المخاطبين بوصف { جميعاً } الدال نصاً على العموم، لرفع احتمال تخصيص رسالته بغير بني إسرائيل، فإن من اليهود فريقاً كانوا يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيء، ويزعمون إنه نبيُء العرب خاصة، ولذلك لما قال رسول الله لابن صياد ــــ وهو يهودي ــــ أتشهد أني رسول الله، قال ابن صياد أشهد إنك رسول الأميين. وقد ثبت من مذاهب اليهود مذهب فريق من يهود أصفهان يدعون بالعيسوية وهم أتباع أبي عيسى الأصفهاني اليهودي القائِل بأن محمداً رسول الله إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل، لأن اليهود فريقان فريق يزعمون أن شريعة موسى لا تنسخ بغيرها، وفريق يزعمون أنها لا تنسخ عن بني إسرائيل، ويجوز أن يبعث رسول لغير بني إسرائيل. وانتصب { جميعاً } على الحال من الضمير المجرور، بــــ إلى وهو فعيل بمعنى مفعوُل أي مجموعين، ولذلك لزم الإفرادَ لأنه لا يطابق موصوفه. { الذي له ملك السماوات والأرض } نعت لاسم الجلالة، دال على الثناء. وتقديم المجرور للقصر، أي لا لغيره مما يعبده المشركون، فهو قصر إضافي للرد على المشركين. وجملة { لا إلٰه إلاّ هو } حال من اسم الجلالة في قوة متفرداً بالإلهية، وهذا قصر حقيقي لتحقيق صفة الوحدانية، لا لقصد الرد على المشركين. وجملة { يُحيي ويميت } حال، والمقصود من ذكر هذه الأوصاف الثلاثة تذكير اليهود، ووعظهم، حيث جحدوا نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وزعموا أنه لا رسول بعد موسى، واستعظموا دعوة محمد، فكانوا يعتقدون أن موسى لا يشبهه رسول، فذُكّروا بأن الله مالك السماوات والأرض، وهو واهب الفضائِل، فلا يُستعظم أن يرسل رسولاً ثم يرسل رسولاً آخر، لأن الملك بيده، وبأن الله هو الذي لا يشابهه أحد في ألوهيته، فلا يكون إلهان للخلق، وأما مرتبة الرسالة فهي قابلة للتعدد، وبأن الله يحيي ويميت فكذلك هو يميت شريعة ويحيي شريعة أخرى، وإحياء الشريعة إيجادها بعد أن لم تكن لأن الإحياء حقيقته إيجاد الحياة في الموجود، ثم يحصل من هذه الصفات إبطال عقيدة المشركين بتعدد الآلهة وبإنكار الحشر. وقد انتظم أن يفرع على هذه الصفات الثلاث الطلب الجازم بالإيمان بهذا الرسول في قوله { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأُمي } والمقصود طلب الإيمان بالنبي الأمي لأنه الذي سِيق الكلام لأجله، ولكن لما صُدّر الأمر بخطاب جميع البشر وكان فيهم من لا يؤمن بالله، وفيهم من يؤمن بالله ولا يؤمن بالنبي الأمّي، جُمع بين الإيمان بالله والإيمان بالنبي الأمي في طلب واحد، ليكون هذا الطلب متوجهاً للفرَق كلهم، ليجمعوا في إيمانهم بين الإيمان بالله والنبي الأمي، مع قضاء حق التأدب مع الله بجعل الإيمان به مقدماً على طلب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم للإشارة إلى أن الإيمان بالرسول إنما هو لأجل الإيمان بالله، على نحو ما أشار إليه قوله تعالى

السابقالتالي
2