الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ } * { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ }

جُعل رجوع موسى إلى قومه غضبان كالأمر الذي وقع الإخبار عنه من قبلُ على الأسلوب المبين في قولهولما جاء موسى لميقاتنا } الأعراف 143 وقولهولما سُقط في أيديهم } الأعراف 149. فرجوع موسى معلوم من تَحقق انقضاء المدة الموعود بها، وكونُه رجع في حالة غضب مشعر بأن الله أوحى إليه فأعلمه بما صنع قومُه في مغيبه، وقد صرح بذلك في سورة طه 85قال فإنّا قد فتنّا قومك من بَعدِك وأضلهم السامري } فــــ { غضبان أسِفاً } حَالان من موسى، فهما قيدانِ لـ { رجع } فعلم أن الغضب والأسف مقارنان للرجوع. والغْضب تقدم في قولهقال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } في هذه السورة 71. والأَسِف بدون مد، صيغة مبالغة للآسف بالمد الذي هو اسم فاعل للذي حل به الأسف وهو الحزن الشديد، أي رجع غضْبان من عصْيان قومه حزيناً على فساد أحوالهم، وبئسما ضد نِعمّا، وقد مضى القول عليه في قوله تعالىقل بئسما يأمركم به إيمانكم } في سورة البقرة 93، والمعنى بئست خلافة خلفتمونيها خِلاَفتُكم. وتقدم الكلام على فعل خَلف في قولهاخلُفْني في قومي } الأعراف 142 قريباً. وهذا خطاب لهارون ووجوه القوم، لأنهم خلفاء موسى في قومهم فيكون { خلفتموني } مستعملاً في حقيقته، ويجوز أن يكون الخطاب لجميع القوم، فأما هارون فلأنه لم يُحسن الخلافة بسياسة الأمة كما كان يسوسها موسى، وأما القوم فلأنهم عبدوا العجل بعد غيبة موسى، ومن لوازم الخلافة فعل ما كان يفعله المخلُوف عنه، فهم لما تركوا ما كان يفعله موسى من عبادة الله وصاروا إلى عبادة العجل فقد انحرفوا عن سيرته فلم يخلفوه في سيرته، وإطلاق الخلافة على هذا المعنى مجاز فيكون فعل { خلفتموني } مستعملاً في حقيقته ومجازه. وزيادة { مِن بعدي } عقب { خلفتموني } للتذكير بالبَون الشاسع بين حال الخلف وحال المخلوفَ عنه تصوير لفظاعة ما خلفوه به أي بعدما سمعتم مني التحذير من الإشراك وزجركم عن تقليد المشركين حين قلتم اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فيكون قيد { من بعدي } للكشف وتصوير الحالة كقوله تعالىفخَر عليهم السقُف من فوقِهم } النحل 26، ومعلوم أن السقف لا يكون إلاّ من فوق، ولكنه ذكر لتصوير حالة الخرور وتهويلها، ونظيره قوله تعالى، بعد ذكر نفر من الأنبياء وصفاتهم،فخلف من بعدهم خَلْف } الأعراف 169 أي من بعد أولئك الموصوفين بتلك الصفات. و«عَجلَ» أكثرَ ما يستعمل قاصراً، بمعنى فعل العجلة أي السرعة، وقد يتعدى إلى المعمول «بعن» فيقال عجلَ عن كذا بمعنى لم يتمّه بعد أن شَرع فيه، وضده تَم على الأمر إذا شرع فيه فأتمّه، ويستعمل عَجِل مضمناً معنى سَبَق فعّدَيَ بنفسه على اعتبار هذا المعنى، وهو استعمال كثير. ومعنى «عَجِل» هنا يَجوز أن يكون بمعنى لم يُتّمَ، وتكون تعديته إلى المفعول على نزع الخافض.

السابقالتالي
2 3 4