الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ }

يجوز أن تكون هذه الآية تكملة لما خاطب الله به موسى وقومه، فتكون جملة { سأصرف } الخ بأسهم، استئنافاً بيانياً، لأن بني إسرائيل كانوا يهابون أولئك الأقوام ويخْشوْن، فكأنهم تساءلوا كيف تُرينا دارهم وَتعدُنا بها، وهلْ لا نهلك قبل الحلول بها، كما حكى الله عنهمقالوا يا موسى إن فيها قوماً جبّارين } الآية في سورة العقود 22 وقد حكى ذلك في الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد، فاجيبوا بأن الله سيصرف أولئك عن آياتِه. والصرف الدفع أي سَأَصُدُّ عن آياتي، أي عن تعطيلها وإبطالها. والآيات الشريعة، ووعد الله أهلها بأن يورثهم أرض الشام، فيكون المعنى سأتَوَلّى دفعهم عنكم، ويكون هذا مثل ما ورد في التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين «ها أنا طاردٌ من قُدَّامِك الأُموريين الخ»، فالصرف على هذا الوجه عناية من الله بموسى وقومِه بما يُهيء لهم من أسباب النصر على أولئك الأقوام الأقوياء، كإلقاء الرعببِ في قلوبهم، وتشتيت كلمتهم، وإيجاد الحوادث التي تفت في ساعد عُدتهم أو تكونُ الجملة جواباً لسؤال من يقول إذا دخلنا أرض العدو فلعلهم يؤمنون بهدينا، ويتبعون ديننا، فلا نحتاج إلى قتالهم، فأجيبوا بأن الله يَصرفهم عن إتباع آياته لأنهم جُبلوا على التكبر في الأرض، والإعراضضِ عن الآيات، فالصرف هنا صرف تكويني في نفوس الأقوام، وعن الحسن أن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى حد إذا وصل إليه مَات قلبه. وفي قَصِّ الله تعالى هذا الكلامَ على محمد صلى الله عليه وسلم تعريض بكفار العرب بأن الله دافِعُهم عن تعطيل آياته، وبأنه مانع كثيراً منهم عن الإيمان بها لما ذكرناه آنفاً. ويجوز أن تكون جملة { سأصرف عن آياتي } من خطاب الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم رَوى الطبري ذلك عن سفيان بن عيينة، فتكون الجملة معترضة في أثناء قصة بني إسرائيل بمناسبة قولهسأُريكم دار الفاسقين } الأعراف 145 تعريضاً بأن حال مشركي العرب كحال أولئك الفاسقين، وتصريحاً بسبب إدامتهم العناد والإعراض عن الإيمان، فتكون الجملة مستأنفة استينافاً ابتدائياً، وتأتي في معنى الصرف عن الآيات الوجوه السابقة واقتران فعل { سأصرف } بسين الاستقبال القريب تنبهه على أن الله يُعجل ذلك الصرف. وتقديم المجرور على مفعول { أصرف } للاهتمام بالآيات، ولأن ذكره عقب الفعل المتعلق هو به أحسنُ. وتعريف المصروفين عن الآيات بطريق الموصولية للإيماء بالصلة إلى علة الصرف. وهي ما تضمنته الصلات المذكورة، لأن من صارت تلك الصفات حالات له يَنصره الله، أو لأنه إذا صار ذلك حاله رين على قلبه، فصرف قلبه عن إدراك دلالة الآيات وزالت منه الأهلية لذلك الفهم الشريف. والأوصاف التي تضمنتها الصلات في الآية تنطبق على مشركي أهل مكة أتَمّ الانطباق.

السابقالتالي
2 3