الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ }

{ وَوَٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَـٰثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَـٰتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً }. عَوْد إلى بقية حوادث بني إسرائيل، بعد مجاوزتهم البَحر، فالجملة عطف على جملةوجاوزنا ببني إسرائيل البحر } الأعراف 138. وقد تقدم الكلام على معنى المواعدة في نظير هذه الآية في سورة البقرة، وقرأ أبو عمرو وَوَعَدْنَا. وحذف الموعود به اعتماداً على القرينة في قوله { ثلاثين ليلة } الخ، و { ثلاثين } منصوب على النيابة عن الظرف، لأن تمييزه ظرف للمواعد به وهو الحضور لتلقي الشريعة، ودل عليه { واعدنا } لأن المواعدة للقاء فالعامل { واعدنا } باعتبار المقدر، أي حضوراً مدة ثلاثين ليلة. وقد جعل الله مدة المناجاة ثلاثين ليلة تيسيراً عليه، فلما قضاها وزادت نفسه الزكية تعلقاً ورغبة في مناجاة الله وعبادته، زاده الله من هذا الفضل عشر ليال، فصارت مدة المناجاة أربعين ليلة، وقد ذكر بعض المفسرين قصة في سبب زيادة عشر ليال، لم تصح، ولم يزده على أربعين ليلة إما لأنه قد بلغ أقصى ما تحتمله قوته البشرية فباعَدهُ الله من أن تعرض له السّآمة في عبادة ربه، وذلك يُجنّب عنه المتقون بَله الأنبياء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " عليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا " ، وإما لأن زيادة مغيبه عن قومه تفضي إلى أضرار، كما قيل إنهم عبدوا العجل في العشر الليالي الأخيرة من الأربعين ليلة، وسميت زيادةُ الليالي العشر إتماماً إشارة إلى أن الله تعالى أراد أن تكون مناجاة موسى أربعين ليلة، ولكنه لما أمره بها أمره بها مفرقة، إما لحكمة الاستيناس، وإما لتكون تلك العشر عبادة أخرى فيتكرر الثواب، والمراد الليالي بأيامها فاقتصر على الليالي لأن المواعدة كانت لأجل الانقطاع للعبادة وتلقي المناجاة. والنفس في الليل أكثر تجرداً للكمالات النفسانية، والأحوال المَلَكية، منها في النهار، إذ قد اعتادت النفوس بحسب أصل التكوين الاستيناسُ بنور الشمس والنشاط به للشغل، فلا يفارقها في النهار الاشتغال بالدنيا ولو بالتفكر وبمشاهدة الموجودات، وذلك ينحّط في الليل والظلمة، وتنعكس تفكرات النفس إلى دَاخلها، ولذلك لم تزل الشريعة تحرض على قيام الليل وعلى الابتهال فيه إلى الله تعالى، قالتتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } السجدة 16 الآية، وقال { وبالأسحار هم يستغفرون } ، وفي الحديث " ينزل ربّنا كل ليلة إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فأستجيب له " ولم يزل الشغل في السهر من شعار الحكماء والمرتاضين لأن السهر يلطف سلطان القوة الحيوانية كما يلطفها الصوم قال في «هياكل النور» «النّفوسُ الناطقة من عالم الملكوت، وإنما شغَلها عن عالَمها القوى البدنية ومشاغَلتُها فإذا قويتْ النفس بالفضائل الرُوحانية وضعُف سلطان القُوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحياناً إلى عالم القُدس وتتصل بربها وتتلقى منه المعارف».

السابقالتالي
2 3