الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ }

{ وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلاَْرْضِ وَمَغَـٰرِبَهَا ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا }. عطف علىفانتقمنا منهم } الأعراف 136. والمعنى فأخذناهم بالعقاب الذي استحقوه وجازيّنا بني إسرائيل بنعمة عظيمة. وتقدم ءانفاً الكلام على معنى { أوْرثنا } عند قوله تعالىأوَ لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } الأعراف 100 والمراد هنا تمليك بني إسرائيل جميع الأرض المقدسة بعد أهلها من الأمم التي كانت تملكها من الكنعانيين وغيرهم. وقد قيل إن فرعون كان له سلطان على بلاد الشام، ولا حاجة إلى هذا إذ ليس في الآية تعيين الموروث عنه. والقومُ الذين كانوا يُستْضعفون هم بنو إسرائيل كما وقع في الآية الأخرىكذلك وأورثناها بني إسرائيل } الشعراء 59، وعدل عن تعريفهم بطريق الإضافة إلى تعريفهم بطريق الموصولية لنكتتين أولاهما الإيماء إلى علة الخبر، أي أن الله ملَّكهم الأرض وجعلهم أمة حاكمة جزاء لهم على ما صبروا على الاستعباد، غيرة من الله على عبيده. الثانية التعريض ببشارة المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنهم ستكون لهم عاقبة السلطان كما كانت لبني إسرائيل، جزاء على صبرهم على الأذى في الله، ونذارةُ المشركين بزوال سلطان دينهم. ومعنى يُستضعفون يستعْبَدون ويهانون، فالسين والتاء للحسبان مثل استنجب، أو للمبالغة كما في استجاب. والمشارق والمغارب جُمع باعتبار تعدد الجهات، لأن الجهة أمر نسبي تتعد بتعدد الأمكنة المفروضة، والمراد بهما إحاطة الأمكنة. و { الأرض } أرض الشام وهي الأرض المقدسة وهي تبتدىء من السواحل الشرقية الشمالية للبحر الأحمر وتنتهي إلى سواحل بحر الروم وهو البحر المتوسط وإلى حدود العراق وحدود بلاد العرب وحدود بلاد الترك. و { التي باركنا فيها } صفة للأرض أو لمشارقها ومَغاربها لأن ما صدقيْهما متحدان، أي قدرنا لها البركة، وقد مضى الكلام على البركة عند قوله تعالى { لَفَتَحْنا عليهم بركات } في هذه السورة 96. أي أعضناهم عن أرض مصر التي أخرجوا منها أرضاً هي خير من أرض مصر. عطف على جملة { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } الخ... والمقصود من هذا الخبر هو قوله { بما صبروا } تنويهاً بفضيلة الصبر وحسن عاقبته، وبذلك الاعتبار عطفت هذه الجملة على التي قبلها، وإلاّ فإن كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل تشمل إيراثهم الأرض التي بارك الله فيها، فتتنزل من جملة { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } إلى آخرها منزلة التذييل الذي لا يعطف، فكان مقتضى العطف هو قوله { بما صبروا }. وكلمة هي القول، وهو هنا يُحتمل أن يكون المراد به اللفظ الذي وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى في قولهعسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض } الأعراف 129 أو على لسان إبراهيم وهي وعد تمليكهم الأرض المقدسة، فتمام الكلمة تحقق وعدها، شُبّه تحققها بالشيء إذا استوفى أجزاءه، ويحتمل أنها كلمة الله في علمه وقدَره وهي أرادة الله إطلاقهم من استعباد القبط وإرادته تمليكهم الأرض المقدسة كقوله

السابقالتالي
2