الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } * { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }

هذا انتقال إلى ذكر المصائب التي أصاب الله بها فرعون وقومه، وجعلها آيات لموسى، ليلجىء فرعون إلى الإذن لبني إسرائيل بالخروج، وقد وقعت تلك الآيات بعد المعجزة الكبرى التي أظهرها الله لموسى في مجمع السحرة، ويظهر أن فرعون أغضى عن تحقيق وعيده إبقاء على بني إسرائيل، لأنهم كانوا يقومون بالأشغال العظيمة لفرعون. ويُؤخذ من التوراة أن موسى بقي في قومه مدة يعيد محاولة فرعون أن يطلق بني إسرائيل، وفرعون يَعد ويُخلف، ولم تضبط التوراة مدة مقام موسى كذلك، وظاهرها أن المدة لم تطُل، وليس قوله تعالى { بالسنين } دليلاً على أنها طالت أعواماً لأن السنين هنا جمع سنة بمعنى الجدْب لا بمعنى الزمن المقدر من الدهر. فالسنة في كلام العرب إذا عرفت باللام يراد بها سنة الجدب، والقحط، وهي حينئذٍ علم جنس بالغلبة، ومن ثَم اشتقوا منها أسْنَت القومُ، إذا أصابهم الجدب والقحط، فالسنين في الآية مراد بها القحوط وجمعها باعتبار كثرة مواقعها أي أصابهم القحط في جميع الأرضين والبلدان، فالمعنى ولقد أخذناهم بالقحوط العامة في كل أرض. والأخْذُ هنا مجاز في القهر والغلبة، كقولهلا تأخذه سنة ولا نوم } البقرة 255. ويصح أن يكون هنا مجازاً في الإصابة بالشدائد، لأن حقيقة الأخذ تناول الشيء باليد، وتعددت إطلاقاته، فأطلق كناية عن الملك. وأطلق استعارة للقهر والغلبة، وللإهلاك. وقد تقدمت معانيه متفرقة في السور الماضية. وجملة { لعلهم يذكرون } في موضع التعليل لجملة { ولقد أخذنا } فلذلك فصلت. ونقص الثمرات قلة إنتاجها قلة غير معتادة لهم. فتنوين { نقص } للتكثير ولذلك نكر نقص ولم يضف إلى الثمرات لئلا تفوت الدلالة على الكثرة. فالسنون تنتاب المزارع والحقول، ونقص الثمرات ينتاب الجنات. ولعل للرجاء، أي مرجوا تذكرهم، لأن المصائب والأضرار المقارنة لتذكير موسى إياهم بربهم، وتسريح عبيده، من شأنها أن يكون أصحابها مرجواً منهم أن يتذكروا بأن ذلك عقاب على إعراضهم وعلى عدم تذكرهم، لأن الله نصب العلامات للاهتداء إلى الخفيات كما قدمناه عند قوله تعالىوما أرسلنا في قرية من نبي } في هذه السورة 94، فشأن أهل الألباب أن يتذكروا، فإذا لم يتذكروا، فقد خيبوا ظن من يظن بهم ذلك مثل موسى وهارون، أما الله تعالى فهو يعلم أنهم لا يتذكرون ولكنه أراد الإملاء لهم، وقطع عذرهم، وذلك لا ينافي ما يدل عليه لعل من الرجاء لأن دلالتها على الراجي والمرجو منه دلالة عرفية، وقد تقدم الكلام على وقوع لعل في كلام الله تعالى عند قوله تعالىيا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } في سورة البقرة 21. وفي هذه الآية تنبيه للأمة للنظر فيما يحيط بها من دلائل غضب الله فإن سلب النعمة للمنعم عليهم تنبيه لهم على استحقاقهم إعراض الله تعالى عنهم.

السابقالتالي
2 3 4