الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } * { فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَاغِرِينَ }

جملة { وأوحينا } معطوفة على جملسحروا أعين الناس، واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم } الأعراف 116، فهي في حيز جواب لمّا، أي لمّا ألْقَوا سَحَروا، وأوحينا إلى موسى أن الق لهم عصاك. و { أن } تفسيرية لفعل { أوحينا } ، والفاء للتعقيب الدال على سرعة مفاجأة شروعها في التلقف بمجرد إلقائها، وقد دل السياق على جملتين محذوفتين، إذ التقدير فألقاها فدبّت فيها الحياة وانقلبت ثعباناً فإذا هي تلقف، دل على الجملة الأولى الأمر بالإلقاء، وعلى الجملة الثانية التلقف لأنه من شأن الحيوان، والعصا إذا دبت فيها الحياة صارت ثعباناً بدون تبديل شكل. والتلقف مبَالغة في اللقف وهو الابتلاع والازدراد. و { ما } موصولة والعائد محذوف أي ما يأفكونه.والإفك الصرف عن الشيء ويسمى الزور إفكاً، والكذب المصنوعُ إفكاً، لأن فيه صرفاً عن الحق وإخفاء للواقع، فلا يسمى إفكاً إلاّ الكذبُ المصطنع المموه، وإنما جعل السحر إفكاً لأن ما يظْهَر منه مخالف للواقع فشبه بالخبر الكاذب. وقرأ الجمهور { تَلَقّفَ } ــــ بقاف مشددة ــــ، وأصله تتلقف، أي تبالغ وتتكلف اللقف ما استطاعت، وقرأ حفص عن عاصم بسكون اللام وتخفيف القاف على صيغة المجرد. والتعبير بصيغة المضارع في قوله { تَلقف } و { يأفكون } للدلالة على التجديد والتكرير، مع استحضار الصورة العجيبة، أي فإذا هي يتجدد تلقفها لِما يتجدد ويتكرر من إفكهم. وتسمية سحرهم إفكاً دليل على أن السحر لا معمول له وأنه مجرد تخييلات وتمويهات. وقوله { فوقع الحق } تفريع على { تلقّف ما يأفكون }. والوقوع حقيقته سقوط الشيء من أعلى إلى الأرض، ومنه وقَع الطائر، إذا نَزَل إلى الأرض، واستعير الوقوع لظهور أمر رفيع القدر، لأن ظهوره كان بتأييد الهي فشبه بشيء نزل من علو، وقد يطلق الوقوع على الحصول لأن الشيء الحاصل يشبه النازل على الأرض، وهي استعارة شائعة قال تعالىوإن الدين لَواقع } الذاريات 6 أي حاصل وكائن، والمعنى فظهر الحق وحصل. ولعل في اختيار لفظ وقع، هنا دون نزل مراعاة لفعل الإلقاء لأن الشيء الملقَى يقع على الأرض فكانَ وقوع العصا على الأرض وظهور الحق مقترنين. و { الحق } هو الأمر الثابت الموافق للبرهان، وضده الباطل، والحق هنا أريد به صدق موسى وصحة معجزته وكون ما فعلته العصا هو من صنع الله تعالى، وأثَرِ قدرته. و { بطل } حقيقته اضمحل. والمراد اضمحلال المقصود منه وانتفاء أثَرٍ مزعوم لشيء يقال بطَل سعيه، أي لم يأت بفائدة، ويقال بطَل عمله، أي ذهب ضياعاً وخُسر بلا أجر، ومنه قوله تعالىويُبْطلُ الباطلَ } الأنفال 8 أي يزيل مفعوله وما قصدوه منه، فالباطل هو الذي لا فائدة فيه، أو لا خير فيه، ومنه سمي ضد الحق باطلاً لأنه شيء لا يحصل منه الأثر المرجو، وهو القبول لدى العقول المستقيمة.

السابقالتالي
2