الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ }

انتقال من أخبار الرسالات السابقة إلى أخبار رسالة عظيمة لأمة باقية إلى وقت نزول القرآن فضّلها الله بفضله فلم تُوَف حق الشكر وتلقت رسولها بين طاعة وإباء وانقياد ونفار، فلم يعاملها الله بالاستيصال ولكنه أراها جزاء مختلف أَعمالها، جزاء وفاقاً، إنْ خيراً فخير، وإن شراً فشر. وخصت بالتفضيل قصة إرسال موسى لِما تحتوي عليه من الحوادث العظيمة، والأنباء القيمة، ولأن رسالته جاءت بأعظم شريعة بين يدي شريعة الإسلام، وأرسل رسولها هادياً وشارعاً تمهيداً لشريعة تأتي لأمة أعظم منها تكون بعدها، ولأن حال المرسل إليهم أشبه بحال من أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا فريقيْن كثيريْن اتَبع أحدهم موسى وكفَر به الآخر، كما اتّبع محمداً ــــ عليه السلام ــــ جمع عظيم وكفر به فريق كثير، فأهلك الله من كفر ونصر من آمن. وقد دلت { ثم } على المُهلة لأن موسى ــــ عليه السلام ــــ بعث بعد شعيب بزمن طويل، فإنه لما توجه إلى مدين حين خروجه من مصر، رجَا الله أن يهديَه فوجد شعيباً، وكان اتصاله به ومصاهرته تدريجاً له في سلم قبول الرسالة عن الله تعالى فالمهلة باعتبار مجموع الأمم المحكي عنها قبل، فإن منها ما بينه وبين موسى قرونَ مثل قوم نوح، ومثل عاد وثمود، وقوم لوط، فالمهلة التي دلت عليها { ثم } متفاوتة المقدار، مع ما يقتضيه عطف الجملة بحرف { ثم } من التراخي الرتبي وهو ملازم لها إذا عطفت بها الجمل. فحرف ثم هنا مستعمل في معنيي المهلة الحقيقي والمجازي. والضمير في قوله { من بعدهم } يعود إلى القرى، باعتبار أهلها، كما عادت عليهم الضمائر في قولهولقد جاءتهم رسلهم } الآيتين الأعراف 101. والباء في { بآياتنا } للملابسة، وهي في موضع الحال من موسى، أي مصحوباً بآيات منا، والآيات الدلائل على صدق الرسول، وهي المعجزات، قال تعالىقال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } الأعراف 106، 107. و { فرعون } علَم جنس لملك مصر في القديم، أي قبل أن يملكها اليونان، وهو اسم من لغة القبط. قيل أصله في القبطية فاراه ولعل الهاء فيه مبدلة عن العين فإن رع اسم الشمس فمعنى فاراه نور الشمس لأنهم كانوا يعبدون الشمس فجعلوا ملك مصر بمنزلة نور الشمس، لأنه يصلح الناس، نقل هذا الاسم عنهم في كتب اليهود وانتقل عنهم إلى العربية، ولعله مما أدخله الإسلام، وهذا الاسم نظير كسرى لملك ملوك الفرس القدماء، وقيصر لملك الروم، ونمروذ لملك كنعان، والنجاشي لملك الحبش، وتُبَع لملك ملوك اليمن، وخان لملك الترك. واسم فرعون الذي أرسل موسى إليه منفطاح الثاني، أحد ملوك العائلة التاسعة عشرة من العائلات التي ملكت مصر، على ترتيب المؤرخين من الإفرنج وذلك في سنة 1491 قبل ميلاد المسيح.

السابقالتالي
2