الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَٰفِرِينَ } * { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ }

لما تكرر ذكر القرى التي كذب أهلها رسل الله بالتعيين وبالتعميم، صارت للسامعين كالحاضرة المشاهدة الصالحة لأن يشار إليها، فجاء اسم الإشارة لزيادة إحضارها في أذهان السامعين من قوم محمد صلى الله عليه وسلم ليعتبروا حالهم بحال أهل القرى، فيروا أنهم سواء فيفيئوا إلى الحق. وجملة { تلك القرى } مستأنفة استئناف الفذلكة لما قبلها من القصص من قولهلقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } الأعراف 59 ثم قوله تعالىوما أرسلنا في قرية من نبي } الأعراف 94 الآية. و { القرى } يجوز أن يكون خبراً عن اسم الإشارة لأن استحضار القرى في الذهن بحيث صارت كالمشاهد للسامع، فكانت الإشارة إليها إشارة عبرة بحالها، وذلك مفيد للمقصود من الإخبار عنها باسمها لمن لا يجهل الخبر كقوله تعالىهذا ما كنزتم لأنفسكم } التوبة 35 أي هذا الذي تشاهدونه تُكْوَون به هو كنزكم، وهم قد علموا أنه كنزهم، وإنما أريد من الإخبار بأنه كنزهم إظهارُ خطإ فعلهم، ويجوز أن يكون القرى بياناً لاسم الإشارة. وجملة { نقص عليك من أنبائها } إما حال من { القرى } على الوجه الأول. وفائدة هذه الحال الامتنان بذكر قَصصها، والاستدلال على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم إذ علمه الله من علم الأولين ما لم يسبق له علمه، والوعدُ بالزيادة من ذلك، لما دل عليه قوله { نقص } من التجدد والاستمرار، والتعريضُ بالمعرضين عن الإتعاظ بأخبارها. وإمّا خبر عن اسم الإشارة على الوجه الثاني في محمل قوله { القرى }. ومنْ تبعيضية لأن لها أنباء غير ما ذكر هنا مما ذكر بعضه في آيات أخرى وطوى ذكر بعضه لعدم الحاجة إليه في التبليغ. والأنباء الأخبار، وقد تقدم في قوله تعالىولقد جاءك من نبإ المرسلين } في سورة الأنعام 34. والمراد بالقرى وضمير أنبائها أهلها، كما دل عليه الضمير في قوله رسلهم. وجملة { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } عطف على جملة { تلك القرى } لمناسبة ما في كلتا الجملتين من قصد التنظير بحال المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم وجمع «البينات» يشير إلى تكرر البينات مع كل رسول، والبينات الدلائل الدالة على الصدق وقد تقدمت عند قوله تعالىقد جاءتكم بينة من ربكم } في قصة ثمود في هذه السورة 73. والفاء في قوله { فما كانوا ليؤمنوا } لترتيب الإخبار بانتفاء إيمانهم عن الإخبار بمجيء الرسل إليهم بما من شأنه أن يحملهم على الإيمان. وصيغة { ما كانوا ليؤمنوا } تفيد مبالغة النفي بلام الجحود الدالة على أن حصول الإيمان كان منافياً لحالهم من التصلب في الكفر. وقد تقدم وجه دلالة لام الجحود على مبالغة النفي عند قوله تعالىما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الآية في سورة آل عمران 79. والمعنى فاستمر عدم إيمانهم وتمكّن منهم الكفر في حين كان الشأن أن يقلعوا عنه.

السابقالتالي
2 3 4