الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }

عطفت على جملةأفأمن أهل القرى } الأعراف 97 لاشتراك مضمون الجملتين في الاستفهام التعجيبي، فانتقُل عن التعجيب من حال الذين مضوا إلى التعجيب من حال الأمة الحاضرة، وهي الأمة العربية الذين ورثوا ديار الأمم الماضية فسكنوها مثل أهل نَجْران، وأهل اليمن، ومن سكنوا ديار ثمود مثل بَليِّ، وكعب، والضجاغم، وبهراء، ومن سكنوا ديار مَدْين مثل جُهَيْنة، وجَرْم، وكذلك من صاروا قبائل عظيمة فنالوا السيادة على القبائل مثل قُريش، وطَي، وتَميم، وهُذَيْل. فالموصول بمنزلة لام التعريف العهدي، وقد يقصد بالذين يرثون الأرض كل أمة خلفت أمة قبلها، فيشمل عاداً وثموداً، فقد قال لكلَ نبيّهمواذكروا إذ جعلكم خلفاء } الأعراف 74 الخ ولكن المشركين من العرب يومئذٍ مقصودون في هذا ابتداء. فالموصول بمنزلة لام الجنس. والاستفهام في قوله { أو لم يهد } مستعمل في التعجيب. مثل الذي في قولهأفأمن أهلُ القرى } الأعراف 97 تعجيباً من شدة ضلالتهم إذ عدموا الاهتداء والاتعاظ بحال من قبلهم من الأمم، ونسوا أن الله قادر على استئصالهم إذا شاءه. والتعريف في الأرض تعريف الجنس، أي يرثون أي أرض كانت منازل لقوم قبلهم، وهذا إطلاق شائع في كلام العرب، يقولون هذه أرض طَيء، وفي حديث الجنازة «من أهل الأرض» أي من السكان القاطنين بأرضهم لا من المسلمين الفاتحين فالأرض بهذا المعنى اسم جنس صادق على شائع متعدد، فتعريفه تعريف الجنس، وبهذا الإطلاق جُمعت على أرضين، فالمعنى أو لم يهد للذين يرثون أرضاً من بعد أهلها. والإرث مصير مال الميت إلى من هو أولى به، ويطلق مجازاً على مماثلة الحي مَيتاً في صفات كانت له، من عزّأ وسيادة، كما فسر به قوله تعالى حكاية عن زكرياءفهب لي من لدنك ولياً يرثني } مريم 5، 6 أي يخلفني في النبوءة، وقد يطلق على القَدْر المشترك بين المعنيين، وهو مطلقُ خلافةِ المُنْقَرَضضِ. وهو هنا محتمل للإطلاقين، لأنه إن أريد بالكلام أهل مكة فالإرث بمعناه المجازي، وإن أريد أهل مكة والقبائل التي سكنت بلاد الأمم الماضية فهو مستعمل في القدر المشترك، وهو كقوله تعالىأن الأرض يرثها عبادي الصالحون } الأنبياء 105 وأيّاً ما كان فقيْدُ { من بعد أهلها } تأكيدٌ لمعنى { يرثون } ، يراد منه تذكير السامعين بما كان فيه أهل الأرض الموروثة من بحبوحة العيش، ثم ما صاروا إليه من الهلاك الشامل العاجل، تصويراً للموعظة بأعظم صورة فهو كقوله تعالىويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } الأعراف 129. ومعنى { لم يهد } لم يرشد ويُبَيْن لهم، فالهداية أصلها تبيين الطريق للسائر، واشتهر استعمالهم في مطلق الإرشاد مجازاً أو استعارة كقوله تعالىاهْدنا الصراط المستقيم } الفاتحة 6. وتقدم أن فعلها يتعدى إلى مفعولين، وأنه يتعدى إلى الأول منهما بنفسه وإلى الثاني تارة بنفسه وأخرى بالحرف اللام أو إلى، فلذلك كانت تعديته إلى المفعول الأول باللام في هذه الآية إمّا لتضمينه معنى يُبين، وإما لتقوية تعلق معنى الفعل بالمفعول كما في قولهم شكرتُ له، وقوله تعالى

السابقالتالي
2 3