الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } * { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } * { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } * { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }

افتتاح هذه السورة بأحد حروف الهجاء جار على طريقة أمثالها من فواتح السور ذوات الحروف المقطعة المبيّنة في سورة البقرة وهذه أول سورة نزلت مفتتحة بحرف مقطع من حروف الهجاء. ورَسمُوا حرف { ن } بصورته التي يرسم بها في الخط وهي مسمّى اسمه الذي هو { نُون } بنوننٍ بعدها واو ثم نون وكان القياس أن تكتب الحُروف الثلاثةُ لأن الكتابة تبَع للنطق والمنطوق به هو اسم الحرف لا ذاته، لأنك إذا أردتَ كتابةَ سيف مثلاً فإنما ترسم سينا، وياء، وفَاء، ولا ترسم صورة سَيْف. وإنما يُقرأ باسم الحرف لا بهجائه كما تقدم في أول سورة البقرة. ويُنطق باسم نون ساكنَ الآخر سكون الكلمات قبل دخول العوامل عليها، وكذلك قرىء في القراءات المتواترة. { نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } يجري القَسَم هنا على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى أن تكون بأشياء معظمة دالة على آثار صفات الله تعالى. و { القلم } المقْسَم به قيل هو ما يكنى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة والتي ستكون، أو هو كائن غيبي لا يعلمه إلاّ الله. وعن مجاهد وقتادة أنه القلم الذي في قوله تعالىٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } العلق 4- 5. قلت وهذا هو المناسب لقوله { وما يسطرون } في الظاهر وهو الذي يقتضيه حال المشركين المقصودين بالخطاب الذين لا يعرفون إلاّ القلم الذي هو آلة الكتابة عند أهل الكِتاب وعند الذين يعرفون الكتابة من العرب. ومن فوائد هذا القسم أن هذا القرآن كتاب الإِسلام، وأنه سيكون مكتوباً مقروءاً بين المسلمين، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بكتابة ما يوحى به إليه وتعريف { القلم } تعريف الجنس. فالقسم بالقلم لشرفه بأنه يُكتب به القرآن وكتبت به الكتب المقدسة وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله تعالى. وهذا يرجحه أن الله نوّه بالقلم في أول سورة نزلت من القرآن بقولهٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } العلق 3- 5. و { ما يسطرون } هي السطور المكتوبة بالقلم. و { مَا } يجوز أن تكون موصولة، أي وما يكتبونه من الصحف، ويجوز أن تكون مصدرية، والمعنى وسَطْرِهم الكتابة سطوراً. ويجوز أن يكون قسَماً بالأقلام التي يكتب بها كتَّاب الوحي القرآن، { وما يسطرون } قَسَماً بكتابهم، فيكون قَسَماًَ بالقرآن على أن القرآن ما هو بكلام مجنون كما تقدم في قوله تعالىوَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } الزخرف 2- 3، وتنظيره بقول أبي تمام

السابقالتالي
2 3 4