الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ }

انتقل من دلائل انتفاء الخلل عن خِلقة السماوات، إلى بيان ما في إحدى السماوات من إتقان الصنع فهو مما شمله عموم الإِتقان في خلق السماوات السبع وذكره من ذِكر بعض أفراد العام كذكر المثال بعد القاعدة الكلية، فدقائق السماء الدنيا أوضح دلالةً على إتقان الصنع لكونها نصب أعين المخاطبين، ولأن من بعضها يحصل تخلص إلى التحذير من حيل الشياطين وسوء عواقب أتباعهم. وتأكيد الخبر بـ قد لأنه إلى أنه نتيجة الاستفهام التقريري المؤكد بـ هل أختِ قد في الاستفهام. والكلام على السماء الدنيا ولماذا وصفت بالدنيا وعن الكواكب تقدم في أول سورة الصافات. وسميت النّجوم هنا مصابيح على التشبيه في حسن المنظر فهو تشبيه بليغ. وذكر التزيين إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال، أي زيَّنَاها لكم مثل الامتنان في قولهولكم فيها جَمال } في سورة النحل 6. والمقصد التخلص إلى ذكر رجم الشياطين ليتخلص منه إلى وعيدهم ووعيد متبعيهم. وعدل عن تعريف مصابيح باللام إلى تنكيره لما يفيده التنكير من التعظيم. والرجوم جمع رَجْم وهو اسْم لما يُرجم به، أي ما يرمي به الرامي من حجر ونحوه تسميةً للمفعول بالمصدر مثل الخَلْق بمعنى المخلوق في قوله تعالىهذا خَلق الله } لقمان 11. والذي جُعل رُجوماً للشياطين هو بعض النجوم التي تبدو مضيئة ثم تلوح منقَضَّة، وتسمى الشُهُب ومضى القول عليها في سورة الصافات. وضمير الغائبة في { جعلناها } المتبادر أنه عائد إلى المصابيح، أي أن المصابيح رجوم للشياطين. ومعنى جعل المصابيح رجوماً جار على طريقة إسناد عمل بعض الشيء إلى جميعه مثل إسناد الأعمال إلى القبائل لأن العاملين من أفراد القبيلة كقوله تعالىثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } البقرة 85 وقول العرب قتلت هُذيل رضيع بني ليث تمَّام بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وجعل بعض المفسرين الضمير المنصوب في { جعلناها } عائد إلى { السماء الدنيا } على تقدير وجعلنا منها رجوماً إما على حذف حرف الجر. وإمّا على تنزيل المكان الذي صدر منه الرجوم منزلة نفس الرجوم فهو مجاز عقلي ومنه قوله تعالىفجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها } في سورة البقرة 66 ولكنها على جعل الضمير المنصوب راجعاً إلى القرية وإن لم تذكر في تلك الآية ولكنها ذكرت في آية سورة الأعراف 163واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } وقصتها هي المشار إليها بقولهولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } البقرة 65 فالتقدير فجعلنا منها، أي من القرية نكالاً، وهم القوم الذين قيل لهمكونوا قردة خاسئين } البقرة 65. والشياطين هي التي تسترق السمع فتطردها الشهب كما تقدم في سورة الصافات. وأصل { أعتدنا } أعدَدْنا أي هيّأنا، قلبت الدال الأولى تاء لتقارب مخرجيهما ليتأتى الإِدغَام طلباً للخفة.

السابقالتالي
2