الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } * { ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ }

صفة ثانية للذي بيده الملك، أعقب التذكيرُ بتصرف الله بخلق الإِنسان وأهم أعراضه بذكر خلق أعظم الموجودات غير الإِنسان وهي السماوات، ومفيدةٌ وصفاً من عظيم صفات الأفعال الإلٰهية، ولذلك أعيد فيها اسم الموصول لتكون الجُملُ الثلاث جارية على طريقة واحدة. والسماوات تكرر ذكرها في القرآن، والظاهر أن المراد بها الكواكب التي هي مجموع النظام الشمسي ما عدا الأرض، كما تقدم عند قوله تعالىفسواهن سبع سماوات } سورة البقرة 29 فإنها هي المشاهدة بأعين المخاطبين، فالاستدلال بها استدلال بالمحسوس. والطباق يجوز أن يكون مصدر طابق وُصفت به السماوات للمبالغة، أي شديدة المطابقة، أي مناسبة بعضها لبعض في النظام. ويجوز أن تكون { طِباقاً } جمع طَبَق، والطبَق المساوي في حالةٍ ما، ومنه قولهم في المثَل «وافَقَ شَنٌّ طبَقَه». والمعنى أنها مرتفع بعضها فوق بعض في الفضاء السحيق، أو المعنى أنها متماثلة في بعض الصفات مثل التكوير والتحرّك المنتظم في أنفسها وفي تحرك كل واحدة منها بالنسبة إلى تحرك بقيتها بحيث لا تَرْتَطِمُ ولا يتداخل سيرها. وليس في قوله { طباقاً } ما يقتضي أن بعضها مظروف لبعض لأن ذلك ليس من مفاد مادة الطباق فلا تَكُن طَبَاقاء. وجاءت جملة { ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت } تقريراً لقوله { خلق سبع سموات طباقاً }. فإن نفي التفاوت يحقق معنى التطابق، أي التماثل. والمعنى ما ترى في خلق الله السماوات تفاوتاً. وأصل الكلام ما ترى فيهن ولا في خلق الرحمان من تفاوت فعبر بخلق الرحمان لتكون الجملة تذييلاً لمضمون جملة { خلق سبع سماوات طباقاً } ، لأن انتفاء التفاوت عما خلقه الله متحقق في خلق السماوات وغيرها، أي كانت السماوات طباقاً لأنها من خلق الرحمان، وليس فيما خلق الرحمان من تفاوت ومن ذلك نظام السماوات. والتفاوت بوزن التفاعل شدة الفَوت، والفوت البعد، وليست صيغة التفاعل فيه لحصول فعل من جانبين ولكنها مفيدة للمبالغة. ويقال تفوَّت الأمر أيضاً، وقيل إن تفوَّت، بمعنى حصل فيه عيب. وقرأ الجمهور { من تفاوت }. وقرأه حمزة والكسائي وخلف { من تفوُّت } بتشديد الواو دون ألف بعد الفاء، وهي مرسومة في المصحف بدون ألف كما هو كثير في رسم الفتحات المشبعة. وهو هنا مستعار للتخالف وانعدام التناسق لأن عدم المناسبة يشبه البعد بين الشيئين تشبيه معقول بمحسوس. والخطاب لغير معين، أي لا تَرى أيها الرائي تفاوتاً. والمقصود منه التعريض بأهل الشرك إذ أضاعوا النظر والاستدلال بما يدل على وحدانية الله تعالى بما تشاهده أبصارهم من نظام الكواكب، وذلك مُمكن لكل من يبصر، قال تعالىأفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها وما لها من فروج } ق 6 فكأنه قال ما تَرون في خلق الرحمان من تفاوت، فيجوز أن يكون { خلق الرحمان } بمعنى المفعول كما في قوله تعالى

السابقالتالي
2 3