الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ }

أم منقطعة وهي للإِضراب الانتقالي من غرض إلى غرض فبعد استيفاء غرض إثبات الإِلٰهية الحق لله تعالى بالوحدانية وتذكيرهم بأنهم مفتقرون إليه، انتقل إلى إبطال أن يكون أحد يدفع عنهم العذاب الذي توعدهم الله به فوُجه إليهم استفهام أن يدلّوا على أحد من أصنامهم أو غيرها يقال فيه هذا هو الذي ينصر من دون الله، فإنهم غير مستطيعين تعيين أحد لذلك إلاّ إذا سلكوا طريق البهتان وما هم بسالكيه في مثل هذا لافتضاح أمره. وهذا الكلام ناشىء عن قولهأأمنتم من في السماء } الملك 16 الآية فهو مثله معترض بين حجج الاستدلال. و أم المنقطعة لا يفارقها معنى الاستفهام، والأكثر أن يكون مقدراً فإذا صرح به كما هنا فأوضح ولا يتوهم أن الاستفهام يقدر بعدها ولو كان يليها استفهام مصرح به فيشكل اجتماع استفهامين. والاستفهام مستعمل في التعجيز عن التعيين فيؤول إلى الانتفاء، والإشارة مشار بها إلى مفهوم { جُندٍ } مفروض في الأذهان استُحضر للمخاطبين، فجعل كأنه حاضر في الخارج يشاهده المخاطبون، فيطلب المتكلم منهم تعيين قبيله بأن يقولوا بنو فلان. ولما كان الاستفهام مستعملاً في التعجيز استلزم ذلك أن هذا الجند المفروض غير كائن. وقريب من ذلك قوله تعالىمن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } البقرة 255 ونحوه. و مَن في موضع مبتدأ واسم الإشارة خبر عن المبتدأ. وكتب في المصحف { أمَّن } بميم واحدة بعد الهمزة وهما ميم أم وميم مَن المدغمتين بجعلهما كالكلمة الواحدة كما كتبعمّ يتساءَلون } النبأ 1 بميم واحدة بعد العين، ولا تقرأ إلاّ بميم مشددة إذ المعتبر في قراءة القرآن الرواية دون الكتابة وإنما يكتب القرآن للإعانة على مراجعته. و { الذي هو جند } صفة لاسم الإِشارة و { لكم } صفة لـ { جند } و { ينصركم } جملة في موضع الحال من { جُندٌ } أو صفة ثانية لـ { جند }. ويجوز أن يكون اسم الإشارة مشاراً به إلى جماعة الأصنام المعروفة عندهم الموضوعة في الكعبة وحولَها الذي اتخذتموه جنداً فمَن هو حتى ينصرَكم من دون الله. فتكون مَنْ استفهامية مستعملة في التحقير مثل قولهمن فرعون } الدخان 31 في قراءة فتح ميم مَن ورفع فرعون، أي من هذا الجند فإنه أحقر من أن يعرف، واسم الإِشارة صفة لاسم الاستفهام مبينة له، و { الذي هو جند لكم } صفة لاسم الإِشارة وجملة { ينصركم } خبر عن اسم الاستفهام، أي هو أقل من أن ينصركم من دون الرحمان. وجيء بالجملة الإسمية { الذي هو جند لكم } لدلالتها على الدوام والثبوت لأن الجند يكون على استعداد للنصر إذا دعي إليه سواء قاتل أم لم يقاتل لأن النصر يحتاج إلى استعداد وتهيُّؤ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم

السابقالتالي
2