الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

افتتحت السورة بما يدل على منتهى كمال الله تعالى افتتاحاً يؤذن بأن ما حَوتْه يحوم حول تنزيه الله تعالى عن النقص الذي افتراه المشركون لمّا نسبوا إليه شركاء في الربوبية والتصرف معه والتعطيل لبعض مراده. ففي هذا الافتتاح براعة الاستهلال كما تقدم في طالع سورة الفرقان. وفعل { تَبَاركَ } يدل على المبالغة في وفرة الخير، وهو في مقام الثناء يقتضي العموم بالقرينة، أي يفيد أن كل وفرة من الكمال ثابتة لله تعالى بحيث لا يتخلف نوع منها عن أن يكون صفة له تعالى. وصيغة تفاعَل إذا أسندت إلى واحد تدل على تكلف فعل ما اشتقت منه نحو تَطاول وتغابن، وترد كناية عن قوة الفعل وشدته مثل تواصل الحبل. وهو مشتق من البَركة، وهي زيادة الخير ووفرته، وتقدمت البركة عند قوله تعالىوبركات عليك } فيسورة هود 48. وتقدم { تَبَارَكَ } عند قوله تعالىتبارك الله رب العالمين } في أول الأعراف 54. وهذا الكلام يجوز أن يكون مراداً به مجرد الإخبار عن عظمة الله تعالى وكماله ويجوز أن يكون مع ذلك إنشاء ثناء على الله أثناه على نفسه، وتعليماً للناس كيف يثنون على الله ويحمدونه كما فيالحمد لله ربَ العالمين } الفاتحة 2 إمّا على وجه الكناية بالجملة عن إنشاء الثناء، وإمّا باستعمال الصيغة المشتركة بين الإخبار والإنشاء في معنييها، ولو صيغ بغير هذا الأسلوب لما احتمل هاذين المعنيين، وقد تقدم في قوله تعالىتبارك الذي نزل الفرقان على عبده } الفرقان 1. وجُعل المسندُ إليه اسمَ موصول للإِيذان بأن معنى الصلة، مما اشتهر به كما هو غالب أحوال الموصول فصارت الصلة مغنية عن الاسم العلم لاستوائهما في الاختصاص به إذ يعلم كل أحد أن الاختصاص بالملك الكامل المطلق ليس إلاّ لله. وذكر { الذي بيده الملك } هنا نظير ذكر مثله عقب نظيره في قوله تعالىتبارك الذي نزل الفرقان على عبده } الفرقان 1 إلى قولهالذي له ملك السماوات والأرض } الفرقان 2. والباء في { بِيَدِهِ } يجوز أن تكون بمعنى في مثل الباء التي تدخل على أسماء الأمكنة نحوولقد نصركم الله ببدر } آل عمران 123 وقول امرء القيس
بسـقـــــط اللــــوى   
فالظرفية هنا مجازية مستعملة في معنى إحاطة قدرته بحقيقة المُلك، والمُلك على هذا اسم للحالة التي يكون صاحبها مَلِكاً. والتعريف في { المُلك } على هذا الوجه تعريف الجنس الذي يشمل جميع أفراد الجنس، وهو الاستغراق فما يوجد من أفراده فرد إلاّ وهو مما في قدرة الله فهو يعطيه وهو يمنعه. واليَد على هذا الوجه استعارة للقدرة والتصرف كما في قوله تعالىوالسماء بنيناها بأيد } الذاريات 47 وقول العرب مَا لي بهذا الأمر يَدَان. ويجوز أن تكون الباء للسببية، ويكون { المُلكُ } اسماً فيأتي في معناه ما قرر في الوجه المتقدم.

السابقالتالي
2