الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً } * { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً } * { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً } * { رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً }

لما شُرعت للمسلمين أحكام كثيرة من الطلاق ولَواحِقه، وكانت كلها تكاليف قد تحجُم بعضُ الأنفس عن إيفاء حق الامتثال لها تكاسلاً أو تقصيراً رغّب في الامتثال لها بقولهومن يتق الله يجعل له مخرجاً } الطلاق 2 وقولهومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً } الطلاق 4، وقولهومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويُعظم له أجراً } الطلاق 5 وقولهسيجعل الله بعد عسر يسراً } الطلاق 7. وحذر الله الناس في خلال ذلك من مخالفتها بقولهوتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } الطلاق 1، وقولهذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } الطلاق 2 أعقبها بتحذير عظيم من الوقوع في مخالفة أحكام الله ورسله لقلة العناية بمراقبتهم، لأن الصغير يُثير الجليل، فذكَّر المسلمين وليسوا ممن يعتوا على أمر ربهم بما حلّ بأقوام من عقاب عظيم على قلة اكتراثهم بأمر الله ورسله لئلا يسلكوا سبيل التهاون بإقامة الشريعة، فيلقي بهم ذلك في مَهواة الضلال. وهذا الكلام مقدمة لما يأتي من قوله { فاتقوا الله يا أولي الألباب } الآيات. فالجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة عطف غرض على غرض. و { كأيّن } اسم لعدد كثير مُبهم يفسره ما يميزه بعده من اسم مجرور بمن و { كأيّن } بمعنى كَم الخبرية. وقد تقدم عند قوله تعالىوكأيّن من نبي قاتل معه ربيون كثير } في آل عمران 146. والمقصود من إفادة التكثير هنا تحقيق أن العذاب الذي نال أهل تلك القرى شيء ملازم لِجزائهم على عتوّهم عن أمر ربهم ورسله فلا يتوهم متوهم أن ذلك مصادفة في بعض القرى وأنها غير مطردة في جميعهم. وكأيّن } في موضع رفع على الابتداء، وهو مبني. وجملة { عتت عن أمر ربها } في موضع الخبر لـ { كأيّن }. والمعنى الإِخبار بكثرة ذلك باعتبار ما فُرع عليه من قوله { فحاسبناها } فالمفرع هو المقصود من الخبر. والمراد بالقرية أهلها على حد قولهواسأل القرية التي كنا فيها } يوسف 82 بقرينة قوله عَقب ذلك { أعد الله لهم عذاباً شديداً } إذ جيء بضمير جمع العقلاء. وإنما أوثر لفظ القرية هنا دون الأُمة ونحوها لأن في اجتلاب هذا اللفظ تعريضاً بالمشركين من أهل مَكة ومشايعةً لهم بالنذارة ولذلك كثر في القرآن ذكر أهل القرى في التذكير بعذاب الله في نحووكم من قرية أهلكناها } الأعراف 4. وفيه تذكير للمسلمين بوعد الله بنصرهم ومحق عدوّهم. والعتوّ ويقال العُتِيّ تجاوز الحدّ في الاستكبار والعناد. وضمن معنى الإِعراض فعدي بحرف { عن }. والمحاسبة مستعملة في الجزاء على الفعل بما يناسب شدته من شديد العقاب، تشبيهاً لتقدير الجزاء بإجراء الحساب بين المتعاملين، وهو الحساب في الدنيا، ولذلك جاء { فحاسبناها } و { عذبناها } بصيغة الماضي. والمعنى فجازيناها على عتوّها جزاءً يكافىء طغيانها.

السابقالتالي
2 3 4