الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً }

تذييل لما سبق من أحكام الإِنفاق على المعتدات والمرضعات بما يعمّ ذلك. ويعم كل إنفاق يطالَب به المسلم من مفروض ومندوب، أي الإِنفاق على قدر السعة. والسَّعة هي الجِدَة من المال أو الرزق. والإِنفاق كفاية مؤونة الحياة من طعام ولباس وغير ذلك مما يُحتاج إليه. و { من } هنا ابتدائية لأن الإِنفاق يصدر عن السعة في الإِعتبار، وليست { من } هذه كـمِن التي في قوله تعالىومما رزقناهم ينفقون } الأنفال 3 لأن النفقة هنا ليست بعضاً من السعة، وهي هناك بعض الرزق فلذلك تكون مِن من قوله { فلينفق مما آتاه الله } تبعيضية. ومعنى { قدر عليه رزقه } جعل رزقه مقدوراً، أي محدوداً بقدر معين وذلك كناية عن التضييق. وضدهيرزقون فيها بغير حساب } غافر 40، يقال قدر عليه رزقه، إذا قتّره، قال تعالىالله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } وتقدم في سورة الرعد 26 أي من كان في ضيق من المال فلينفق بما يسمح به رزقه بالنظر إلى الوفاء بالإِنفاق ومراتبه في التقديم. وهذا مُجمَل هنا تفصيله في أدلة أخرى من الكتاب والسنة والاستنباط، " قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة زوج أبي سفيان خذي من ماله ما يكفيك وولدَك بالمعروف " والمعروف هو ما تعارفه الناس في معتاد تصرفاتهم ما لم تبطله الشريعة. والرزق اسم لما ينتفع به الإِنسان في حاجاته من طعام ولباس ومتاع ومنزل. سواء كان أعياناً أو أثماناً. ويطلق الرزق كثيراً على الطعام كما في قوله تعالىوجد عندها رزقاً } آل عمران 37. ولم يختلف العلماء في أن النفقات لا تتحدد بمقادير معينة لاختلاف أحوال الناس والأزمان والبلاد. وإنما اختلفوا في التوسع في الإِنفاق في مال المؤسر هل يقضَى عليه بالتوسعة على من يُنفق هو عليه ولا أحسب الخلاف في ذلك إلا اختلافاً في أحوال الناس وعوائدهم ولا بدّ من اعتبار حال المنفَق عليه ومعتاده، كالزوجة العالية القَدر. وكل ذلك داخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند «ما يكفيك وولدَك بالمعروف». وجملة { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } تعليل لقوله { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله }. لأن مضمون هذه الجملة قد تقرر بين المسلمين من قبل في قوله تعالىلا يكلف الله نفساً إلا وسعها } في سورة البقرة 286، وهي قبل سورة الطلاق. والمقصود منه إقناع المنفَق عليه بأن لا يطلب من المنفِق أكثر من مقدُرته. ولهذا قال علماؤنا لا يطلَّق على المعسر إذا كان يقدر على إشباع المنفَق عليها وإكسائها بالمعروف ولو بشظف، أي دون ضر. و { مما آتاه الله } يشمل المقدرة على الاكتساب فإذا كان مَن يجب عليه الإِنفاق قادراً على الاكتساب لِينفق من يجب عليه إنفاقه أو ليكمِّل له ما ضاق عنه ماله، يجبر على الاكتساب.

السابقالتالي
2