الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }

هذا تذكير بخلق الإنسان وكيف نشأ هذا العدد العظيم من نفْس واحدة كما هو معلوم لهم، فالّذي أنشأ النّاس وخلقهم هو الحقيق بعبادتهم دون غيره ممّا أشركوا به، والنّظر في خلقة الإنسان من الاستدلال بأعظم الآيات. قال تعالىوفي أنفسكم أفلا تبصرون } الذاريات 21. والقصر الحاصل من تعريف المسند إليه والمسند تعريض بالمشركين، إذ أشركوا في عبادتهم مع خالقهم غيرَ من خلقهم على نحو ما قررتُه في الآية قبل هذه. والإنشاء الإحداث والإيجاد. والضّمير المنصوب مراد به البشر كلّهم. والنّفس الواحدة هي آدم ـــ عليه السّلام ـــ. وقوله { فمستقرّ } الفاء للتّفريع عن { أنشأكم } ، وهو تفريع المشتَمَل عليه المقارن على المشتمِل. وقرأه الجمهور { مستقَر } ـــ بفتح القاف ـــ وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وروح عن يعقوب «بكسر القاف». فعلى قراءة ـــ فتح القاف ـــ يكون مصدراً ميمياً، و { مستَودَع } كذلك، ورفعهما على أنّه مبتدأ حُذف خبره، تقديره لكم أو منكم، أو على أنّه خبر لمبتدأ محذوف تقديره فأنتم مُستقرّ ومستودَع. والوصف بالمصدر للمبالغة في الحاصل به، أي فتفرّع عن إنشائكم استقرار واستيداع، أي لكم. وعلى قراءة ـــ كسر القاف ـــ يكون المستقرّ اسم فاعل. والمستودَع اسم مفعول من استودعَه بمعنى أودعه، أي فمستقِرّ منكم أقررناه فهو مستقرّ، ومستودَع منكم ودّعناه فهو مستودَع. والاستقرار هو القرار، فالسّين والتّاء فيه للتّأكيد مثل استجاب. يقال استقرّ في المكان بمعنى قرّ. وتقدّم عند قوله تعالىلكلّ نبأ مستقرّ } في هذه السورة 67. والاستيداع طلب التّرك، وأصله مشتقّ من الوَدْع، وهو التّرك على أن يُسترجع المستوْدَعُ. يقال استودعه مالاً إذا جعله عنده وديعة، فالاستيداع مؤذن بوضع موقّت، والاستقرار مؤذن بوضع دائم أو طويل. وقد اختلف المفسّرون في المراد بالاستقرار والاستيداع في هذه الآية مع اتّفاقهم على أنّهما متقابلان. فعَن ابن مسعود المستقَرّ الكون فوق الأرض، والمستودَع الكون في القبْر. وعلى هذا الوجه يكون الكلام تنبيهاً لهم بأنّ حياة النّاس في الدّنيا يعقبها الوضع في القبور وأنّ ذلك الوضع استيداع موقّت إلى البعث الّذي هو الحياة الأولى ردّاً على الّذين أنكروا البعث. وعن ابن عبّاس المستقرّ في الرّحم والمستودَع في صلب الرجل، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضاً، وقاله مجاهد والضحْاك وعطاء وإبراهيم النخعي، وفسّر به الزجّاج. قال الفخر وممّا يدلّ على قوّة هذا القول أنّ النّطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زماناً طويلاً والجنين يبقى في رَحم الأمّ زماناً طويلاً. وعن غير هؤلاء تفسيرات أخرى لا يثلج لها الصّدر أعرضنا عن التّطويل بها. وقال الطّبري إنّ الله لم يخصّص معنى دون غيره، ولا شكّ أنّ من بني آدم مستقرّاً في الرّحم ومستودَعاً في الصلب، ومنهم من هو مستقرّ على ظهر الأرض أو بطنها ومستودَع في أصلاب الرّجال، ومنهم مستقرّ في القبر مستودَع على ظهر الأرض، فكلّ مستقِرّ أو مستودع بمعنى من هذه المعاني داخل في عموم قوله { فمستقَرّ ومستودع } اهــ.

السابقالتالي
2