الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ مِنَ ٱلْحَيِّ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } * { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ سَكَناً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ }

استئناف ابتدائي انتُقل به من تقرير التّوحيد والبعث والرّسالة وأفانين المواعظ والبراهين الّتي تخلّلت ذلك إلى الاستدلال والاعتبار بخلق الله تعالى وعجائب مصنوعاته المشاهدة، على انفراده تعالى بالإلهيّة المستلزم لانتفاء الإلهيّة عمّا لا تقدر على مثل هذا الصّنع العجيب، فلا يحقّ لها أن تعبد ولا أن تشرك مع الله تعالى في العبادة إذ لا حقّ لها في الإلهيّة، فيكون ذلك إبطالاً لشرك المشركين من العرب، وهو مع ذلك إبطال لمعتقَد المعطّلين من الدُهريين منهم بطريق الأوْلى، وفي ذلك امتنان على المقصودين من الخطاب وهم المشركون بقرينة قوله { فأنَّى تُؤفَكُون } ، أي فتكفرون النّعمة. وفيه عِلم ويقين للمؤمنين من المصدّقين واستزادة لمعرفتهم بربّهم وشكرهم. وافتتاحُ الجملة بــ { إنْ } مع أنّه لا ينكر أحد أنّ الله هو فاعل الأفعال المذكورة هنا، ولكنَّ النّظر والاعتبار في دلالة الزّرع على قدرة الخالق على الإحياء بعد الموت كما قدر على إماتة الحي، لمّا كان نظراً دقيقاً قد انصرف عنه المشركون فاجْترأوا على إنكار البعث، كان حالهم كحال من أنكر أو شَكّ في أنّ الله فالقُ الحبّ والنَّوى، فأكّد الخبر بحرف إنْ. وجيء بالجملة الاسميّة للدّلالة على ثبات هذا الوصف دوامه لأنّه وصف ذاتي لله تعالى، وهو وصف الفعل أو وصف القدرة وتعلُّقاتها في مصطلح من لا يثبت صفات الأفعال، ولمّا كان المقصود الاكتفاء بدلالة فلق الحبّ والنّوى على قدرة الله على إخراج الحيّ من الميّت، والانتقالُ من ذلك إلى دلالته على إخراج الحيّ من الميّت في البعث، لم يؤت في هذا الخبر بما يقتضي الحصر إذ ليس المقام مقام القصر. والفَلْق شَقّ وصدعُ بعض أجزاء الشّيء عن بعض، والمقصود الفلق الّذي تنبثق منه وشائج النّبْت والشّجر وأصولها، فهو محلّ العبرة من علم الله تعالى وقدرته وحكمته. والحَبّ اسم جمع لما يثمره النّبت، واحده حبّة. والنَّوى اسم جمع نواة، والنّواة قلب التّمرة. ويطلق على ما في الثّمار من القلوب الّتي منها يَنبت شجرها مثل العنب والزّيتون، وهو العَجَم بالتّحريك اسم جمع عَجَمة. وجملة { يخرج الحيّ من الميّت } في محلّ خبر ثان عن اسم إنّ تتنزّل منزلة بيان المقصود من الجملة قبلها وهو الفَلْق الّذي يخرج منه نبتاً أو شجراً نامياً ذا حياة نباتيةٍ بعد أن كانت الحبّة والنّواة جسماً صلباً لا حياة فيه ولا نماءَ. فلذلك رجّح فصل هذه الجملة عن الّتي قبلها إلاّ أنّها أعمّ منها لدلالتها على إخراج الحيوان من ماء النطفة أو من البيض، فهي خبر آخر ولكنّه بعمومه يبيّن الخبر الأوّل، فلذلك يحسن فصل الجملة، أو عدممِ عطف أحد الأخبار. وعُطف على { يخرج الحيّ من الميّت } قولُه { ومخرج الميّت من الحيّ } لأنّه إخبار بضدّ مضمون { يخرج الحيّ من الميّت } وصنع آخر عجيب دالّ على كمال القدرة وناف تصرّف الطّبيعة بالخَلْق، لأنّ الفعل الصّادر من العالم المختار يكون على أحوال متضادة بخلاف الفعل المتولد عن سبب طبعي، وفي هذا الخبر تكملة بيان لما أجمله قوله { فالقُ الحبّ والنّوى } ، لأنّ فلق الحبّ عن النّبات والنّوى عن الشّجر يشمل أحوالاً مُجملة، منها حال إثمار النّبات والشّجر حبّاً ييبس وهو في قصب نباته فلا تكون فيه حياة، ونوىً في باطن الثّمار يبَساً لا حياة فيه كنوى الزّيتون والتّمر، ويزيد على ذلك البيان بإخراج البيض واللّبَن والمِسْك واللّؤلؤ وحجر البازهر من بواطن الحيوان الحيّ، فظهر صدور الضدّين عن القدرة الإلهيّة تمام الظّهور.

السابقالتالي
2 3 4