الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }

إن كان القول المقدّر في جملةأخرجوا أنفسكم } الأنعام 93 قولاً من قِبَل الله تعالى كان قوله { ولقد جئتمونا فرادى } عطفاً على جملةأخرجوا أنفسكم } الأنعام 93، أي يقال لهم حين دفعهم الملائكة إلى العذاب أخرجوا أنفسكم، ويقال لهم لقد جئتمونا فرادى. فالجملة في محلّ النّصب بالقول المحذوف. وعلى احتمال أن يكونغمرات الموت } الأنعام 93 حَقيقة، أي في حين النّزع يكون فعل { جئتمونا } من التّعبير بالماضي عن المستقبل القريب، مثل قد قامت الصّلاة، فإنّهم حينئذٍ قاربوا أن يرجعوا إلى مَحض تصرّف الله فيهم. وإن كان القول المقدّر قولَ الملائكة فجملة { ولقد جئتمونا فُرادى } عطف على جملةولو ترى إذ الظّالمون } الأنعام 93 فانتقل الكلام من خطاب المعتبِرين بحال الظّالمين إلى خطاب الظّالمين أنفسهم بوعيدهم بما سيقول لهم يومئذٍ. فعلى الوجه الأوّل يكون { جئتمونا } حقيقة في الماضي لأنّهم حينما يقال لهم هذا القول قد حصل منهم المجيء بين يدي الله. وقد للتّحقيق. وعلى الوجه الثّاني يكون الماضي معبّراً به عن المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه، وتكون قد ترشيحاً للاستعارة. وإخبارهم بأنّهم جاءوا ليس المراد به ظاهر الإخبار لأنّ مجيئهم معلوم لهم ولكنّه مستعمل في تخطئتهم وتوقيفهم على صدق ما كانوا يُنذرون به على لسان الرّسول فينكرونه وهو الرّجوع إلى الحياة بعد الموت للحساب بين يدي الله. وقد يقصد مع هذا المعنى معنى الحصول في المِكنة والمصير إلى ما كانوا يحسبون أنّهم لا يصيرون إليه، على نحو قوله تعالىووجد الله عنده } النور 39، وقول الرّاجز
قد يُصبح الله إمام السّاري   
والضّمير المنصوب في { جئتمونا } ضمير الجلالة وليس ضمير الملائكة بدليل قوله { كما خلقناكم }. و { فُرادى } حال من الضّمير المرفوع في { جئتمونا } أي منعزلين عن كلّ ما كنتم تعتزّون به في الحياة الأولى من مال وولد وأنصار، والأظهر أنّ فُرادى جمع فَرْدَان مثل سُكارى لسَكران. وليس فُرادى المقصورُ مرادفاً لفُرادَ المعدوللِ لأنّ فُرادَ المعدول يدلّ على معنى فَرْداً فَرْداً، مثل ثُلاث ورُباع من أسماء العدد المعدولة. وأمّا فرادى المقصور فهو جمع فردان بمعنى المنفرد. ووجه جمعه هنا أنّ كلّ واحد منهم جاء منفرداً عن ماله. وقوله { كما خلقناكم أوّل مرّة } تشبيه للمجيء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الّذي كانوا ينكرونه فقد رأوه رأي العين، فالكاف لتشبيه الخلق الجديد بالخلق الأوّل فهو في موضع المفعول المطلق. وما المجرورة بالكاف مصدريّة. فالتّقدير كخلْقِنا إيّاكم، أي جئتمونا مُعَادَيْن مخلوقين كما خلقناكم أوّل مرّة، فهذا كقوله تعالىأفعيينا بالخلق الأوّل بل هم في لبس من خلق جديد } ق 15. والتّخويل التفضّل بالعطاء. قيل أصله إعطاء الخَوَل ـــ بفتحتين ـــ وهو الخدم، أي إعطاء العبيد. ثمّ استعمل مجازاً في إعطاء مطلق ما ينفع، أي تركتم ما أنعمنا به عليكم من مال وغيره.

السابقالتالي
2 3 4