الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }

وجود واو العطف في صدر هذه الجملة ينادي على أنّها نزلت متناسقة مع الجمل الّتي قبلها، وأنّها وإيّاها واردتان في غرض واحد هو إبطال مزاعم المشركين، فهذا عطف على جملةفإن يكفر بها هؤلاء } الأنعام 89، وأنّها ليست ابتدائيّة في غرض آخر. فواو الضّمير في قوله { قدروا } عائد على ما عاد إليه اسم الإشارة في قولههؤلاء } الأنعام 89 كما علمت آنفاً. ذلك أنّ المشركين لمّا استشعروا نهوض الحجّة عليهم في نزول القرآن بأنّه ليس بِدعاً ممّا نزل على الرّسل، ودحضَ قولهملولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً } الفرقان 7 توغّلوا في المكابرة والجحود فقالوا { ما أنزل الله على بشر من شيء } وتجاهلوا ما كانوا يقولونه عن إبراهيم ـــ عليه السّلام ـــ وما يعلمونه من رسالة موسى ـــ عليه السلام ـــ وكتابه. فروى الطبري عن ابن عبّاس ومجاهد أنّ قائل ذلك هم المشركون من قريش. وقد جاءت هذه الآية في هذا الموقع كالنتيجة لما قبلها من ذكر الأنبياء وما جاءوا به من الهدى والشّرائع والكتب، فلا جرم أنّ الّذين قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء، قد جاءوا إفكاً وزوراً وأنكروا ما هو معلوم في أجيال البشر بالتّواتر. وهذه الجملة مثل ما حكاه الله عنهم في قولهوقال الّذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالّذي بين يديه } سبأ 31. ومن أئمّة التّفسير من جعل هذا حكاية لقول بعض اليهود، واختلفوا في أنّه معيّن أو غير معيّن، فعن ابن عبّاس أيضاً، وسعيد بن جبير، والحسن، والسديّ أنّ قائل { ما أنزل الله على بشر من شيء } بعض اليهود وروي عن سعيد بن جبير وعكرمة أنّ قائل ذلك مالك بن الصيف القُرظي وكان من أحبار اليهود بالمدينة، وكان سميناً وأنّه جاء يخاصم النّبيء صلى الله عليه وسلم فقال له النّبيء " أنشدك بالّذي أنزل التّوراة على موسى أمَا تجد في التّوراة أنّ الله يبغض الحَبر السمين " فغضب وقال والله ما أنزل الله على بشر من شيء. وعن السُدّي أنّ قائله فِنْحاص اليهودي. ومحمل ذلك كلّه على أنّ قائل ذلك منهم قاله جهلاً بما في كتبهم فهو من عامّتهم، أو قاله لجاجاً وعِناداً. وأحسب أنّ هذه الرّوايات هي الّتي ألجأت رواتها إلى ادّعاء أنّ هذه الآيات نزلت بالمدينة، كما تقدّم في الكلام على أوّل هذه السورة. وعليه يكون وقع هذه الآيات في هذا الموقع لمناسبة قولهأولئك الّذين آتيناهم الكتاب } الأنعام 89 الآية، وتكون الجملة كالمعترضة في خلال إبطال حجاج المشركين. وحقيقة { قدروا } عيَّنوا القَدْر وضَبطوه أي، عَلّموه عِلماً عن تحقّق. والقَدْر ـــ بفتح فسكون ـــ مقياسُ الشيء وضابطه، ويستعمل مجازاً في عِلم الأمر بكُنهه وفي تدبير الأمر.

السابقالتالي
2 3 4 5