الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ }

جملة ابتدائية قصد من استئنافها استقلالها للاهتمام بمضمونها، ولأنّها وقعت موقع التّكرير لمضمون الجملتين اللّتين قبلها جملةوهديناهم إلى صراط مستقيم } الأنعام 87 وجملةأولئك الذّين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة } الأنعام 89. وحقّ التكرير أن يكون مفصولاً، وليبنى عليها التّفريع في قوله { فبهداهم اقتده }. والمشار إليهم باسم الإشارة هم المشار إليهم بقولهأولئك الّذين آتيناهم الكتاب والحكم والنّبوة } الأنعام 89 فإنّهم الّذين أمر نبيّنا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهداهم. وتكرير اسم الإشارة لتأكيد تمييز المشار إليه ولما يقتضيه التكرير من الاهتمام بالخبر. وأفاد تعريف المسند والمسند إليه قصر جنس الّذين هداهم الله على المذكورين تفصيلاً وإجمالاً، لأنّ المهديين من البشر لا يعدون أن يكونوا أولئك المسمّين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، فإنّ من آبائهم آدم وهو الأب الجامع للبشر كلّهم، فأريد بالهدى هدى البشر، أي الصرف عن الضلالة، فالقصر حقيقي. ولا نظر لصلاح الملائكة لأنّه صلاح جبليّ. وعدل عن ضمير المتكلّم إلى اسم الجلالة الظاهر لقَرْن هذا الخبر بالمهابة والجلالة. وقوله { فبهداهم اقتده } تفريع على كمال ذلك الهُدَى، وتخلُّص إلى ذكر حظّ محمدّ صلى الله عليه وسلم من هُدى الله بعد أن قُدّم قبله مُسْهَبُ ذكر الأنبياء وهديهم إشارة إلى علوّ منزلة محمّد صلى الله عليه وسلم وأنّها منزلة جديدة بالتّخصيص بالذكر حيث لم يذكر مع الأنبياء المتقدّمين، وأنّه جمَعَ هُدى الأوّلين، وأكملت له الفضائل، وجُمع له ما تفرّق من الخصائص والمزايا العظيمة. وفي إفراده بالذكر وترك عدّه مع الأوّلين رمز بديع إلى فذاذته وتفرّد مقداره، ورَعْي بديع لحال مجيء رسالته بعد مرور تلك العصور المتباعدة أو المتجاورة، ولذلك قُدّم المجرور وهو { بهداهم } على عامله، للاهتمام بذلك الهدى لأنّه هو منزلتك الجامعة للفضائل والمزايا، فلا يليق به الاقتداء بهُدى هو دون هُداهم. ولأجل هذا لم يسبق للنّبيء صلى الله عليه وسلم اقتداء بأحد ممّن تحنّفوا في الجاهليّة أو تنصَّروا أو تهوّدوا. فقد لقي النّبيء صلى الله عليه وسلم زيدَ بن عَمْرو بن نُفَيْللٍ قبل النّبوءة في بَلْدَح وعَرض عليه أن يأكل معه من سُفْرته، فقال زيد «إنِّي لا آكل ممّا تذبحون على أنصابكم» توهّماً منه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يدين بدين الجاهليّة، وألهم الله محمّداً صلى الله عليه وسلم السكوت عن إجابته إلهاماً لحفظ السِرّ المدَّخر فلم يقل له إنّي لا أذبح على نُصُب. ولقي ورقةَ بن نوفل غير مرّة بمكّة. ولَقِي بَحيرا الرّاهبَ. ولم يقتد بأحد من أولئك وبقي على الفطرة إلى أن جاءته الرّسالة. والاقتداء افتعال من القُدوةَ بضمّ القاف وكسرها وقياسه على الإسوة يقتضي أنّ الكسر فيه أشهر. وقال في المصباح } الضمّ أكثر.

السابقالتالي
2 3 4 5