الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }

عطف على جملةوحاجّه قومه } الأنعام 80. و { تلك } إشارة إلى جميع ما تكلّم به إبراهيم في محاجَّة قومه، وأتي باسم إشارة المؤنّث لأنّ المشار إليه حجّة فأخبر عنه بحجّة فلمَّا لم يكن ثمَّة مشار إليه محسوس تعيّن أن يعتبر في الإشارة لفظ الخبر لا غير، كقوله تعالىتلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } البقرة 253. وإضافة الحجّة إلى اسم الجلالة للتّنويه بشأنها وصحَّتها. و { آتيناها } في موضع الحال من اسم الإشارة أو من الخبر. وحقيقة الإيتاء الإعطاء، فحقَّه أن يتعدّى إلى الذّوات، ويكون بمناولة اليد إلى اليد. قال تعالىوآتى المال على حبّه ذوي القربى } البقرة 177، ولذلك يقال اليدُ العليا هي المعطية واليد السّفلى هي المعطاة. ويستعمل مجازاً شائعاً في تعليم العلوم وإفادة الآداب الصالحة وتخويلها وتعيينها لأحد دون مناولة يد سواء كانت الأمور الممنوحة ذواتاً أم معانيَ. يقال آتاه الله مالاً، ويقال آتاه الخليفة إمارة وآتاه الله المُلك } البقرة 258،وآتيناه الحكمة } ص 20. فإيتاء الحجّة إلهامُه إيّاها وإلقاءُ ما يعبِّر عنها في نفسه. وهو فضل من الله على إبراهيم إذ نصره على مناظريه. و { على } للاستعلاء المجازي، وهو تشبيه الغالب بالمستعلي المتمكّن من المغلوب، وهي متعلّقة { بحجّتنا } خلافاً لمن منعه. يقال هذا حجّة عليك وشاهد عليك، أي تلك حجّتنا على قومه أقحمناهم بها بواسطة إبراهيم، ويجوز أن يتعلَّق بــ { آتيناها } لمّا يتضمّنه الإيتاء من معنى النصر. وجملة { نرفع درجات من نشاء } حال من ضمير الرفع في { آتيناها } أو مستأنفة لبيان أنّ مثل هذا الإيتاء تفضيل للمؤتَى وتكرمة له. ورفع الدّرجات تمثيل لتفضيل الشأن، شبّهت حالة المفضّل على غيره بحال المرتقي في سُلَّم إذا ارتفع من درجة إلى درجة، وفي جميعها رفع، وكلّ أجزاء هذا التمثيل صالح لاعتبار تفريق التّشبيه، فالتّفضيل يُشبه الرّفع، والفضائل المتفاوتة تشبه الدّرجات، ووجه الشّبه عِزّة حصول ذلك لغالب النّاس. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، بإضافة { درجات } إلى { مَنْ }. فإضافة الدرجات إلى اسم الموصول باعتبار ملابسة المرتقي في الدرجة لها لأنّها إنّما تضاف إليه إذا كان مرتقياً عليها، والإتيان بصيغة الجمع في { درجات } باعتبار صلاحيّة { من نشاء } لأفراد كثيرين متفاوتين في الرفعة، ودلّ فعل المشيئة على أنّ التفاضل بينهم بكثرة موجبات التّفضيل، أو الجمعُ باعتبار أنّ المفضّل الواحد يتفاوت حاله في تزايد موجبات فضله. وقرأه البقية ـــ بتنوين { درجات } ـــ، فيكون تمييزاً لنسبة الرفع باعتبار كون الرفع مجازاً في التفضيل. والدرجات مجازاً في الفضائل المتفاوتة. ودلّ قوله { مَن نشاء } على أنّ هذا التّكريم لا يكون لكلّ أحد لأنّه لو كان حاصلاً لكلّ النّاس لم يحصل الرفع ولا التفضيل. وجملة { إنّ ربّك حكيم عليم } مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأنّ قوله { نرفع درجات من نشاء } يثير سؤالاً، يقول لماذا يرفع بعض النّاس دون بعض، فأجيب بأنّ الله يعلم مستحقّ ذلك ومقدار استحقاقه ويخلق ذلك على حسب تعلّق علمه. فحكيم بمعنى محكم، أي متّقن للخلق والتّقدير. وقدم { حكيم } على { عليم } لأنّ هذا التّفضيل مَظهر للحكمة ثمّ عقّب بــ { عليم } ليشير إلى أنّ ذلك الإحكام جار على وفق العلم.