الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَٰجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ }

لمّا أعلن إبراهيم ـــ عليه السلام ـــ معتَقَده لقومه أخذوا في محاجّته، فجملة { وحاجَّة } عطف على جملةإنِّي وجَّهْتُ وجهِي للذي فطر السماوات والأرض } الأنعام 79. وعطفت الجملة بالواو دون الفاء لتكون مستقلَّة بالإخبار بمضمونها مع أنّ تفرّع مضمونها على ما قبلها معلوم من سياق الكلام. والمحاجَّة مفاعلة متصرّفة من الحُجَّة، وهي الدّليل المؤيّد للدعوى. ولا يعرف لهذه المفاعلة فعْل مجرّد بمعنى استدلّ بحجّة، وإنَّما المعروف فِعْل حَجّ إذا غَلب في الحُجَّة، فإن كانت احتجاجاً من الجانبين فهي حقيقة وهو الأصل، وإن كانت من جانب واحد باعتبار أنّ محاول الغَلَب في الحجَّة لا بدّ أن يتلقَّى من خصمه ما يرُدّ احتجاجه فتحصل المحاولة من الجانبين، فبذلك الاعتبار أطلق على الاحتجاج محاجَّة، أو المفاعلة فيه للمبالغة. والأوْلى حملها هنا على الحقيقة بأن يكون المعنى حصول محاجَّة بينهم وبين إبراهيم. وذكر الشيخ ابن عرفة في درس تفسيره أنّ صيغة المفاعلة تقتضي أنّ المجعول فيها فاعلاً هو البادىء بالمحاجَّة، وأنّ بعض العلماء استشكل قوله تعالى في سورة البقرة 258ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيمَ في ربِّه } حيث قالإذ قال إبراهيم ربّي الذي يحيي ويميت } البقرة 258. فبدأ بكلام إبراهيم وهو مفعول الفعل وأجاب بأنّ إبراهيم بدأ بالمقاولة ونمروذ بدأ المحاجَّة. ولم يذكر أئمَّة اللّغة هذا القيد في استعمال صيغة المفاعلة. ويجوز أن يكون المراد هنا أنَّهم سلكوا معه طريق الحجَّة على صحَّة دينهم أو على إبطال معتقده وهو يسمع، فجعل سماعه كلامهم بمنزلة جواب منه فأطلق على ذلك كلمة المحاجَّة. وأبهم احتجاجهم هنا إذ لا يتعلَّق به غرض لأنّ الغرض هو الاعتبار بثبات إبراهيم على الحقّ. وحذف متعلّق { حاجّة } لدلالة المقام، ودلالة ما بعده عليه من قوله { أتحاجّوني في الله } الآيات. وقد ذكرت حججهم في مواضع في القرآن، منها قوله في سورة الأنبياء 52 - 53إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } إلى قولهوأنا على ذلكم من الشاهدين } الأنبياء 56، وقوله في سورة الشعراء72، 73قال هل يَسْمعونكم إذْ تدعون أو ينفعونكم أو يضُرّون } الآيات، وفي سورة الصافات85 - 86إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون } إلى قولهفجعلناهم الأسفلين } الصافات 98 وكلّها محاجَّة حقيقيّة، ويدخل في المحاجّة ما ليس بحجَّة ولكنَّه ممّا يرونه حججاً بأن خوّفُوه غضب آلهتهم، كما يدلّ عليه قوله { ولا أخاف ما تشركون به } الآية. والتقدير وحاجّه قومه فقالوا كيت وكيت. وجملة { قال أتحاجّوني في الله } جوابُ محاجَّتهم، ولذلك فصلت، على طريقة المحاورات كما قدّمناه في قوله تعالىوإذ قال ربّك للملائكة إنِّي جاعل في الأرض خليفة } في سورة البقرة 30، فإن كانت المحاجَّة على حقيقة المفاعلة فقوله { أتحاجّوني } غلق لباب المجادلة وخَتْم لها، وإن كانت المحاجّة مستعملة في الاحتجاج فقوله { أتحاجّوني } جواب لمحاجّتهم، فيكون كقوله تعالى

السابقالتالي
2 3