الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } * { فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ } * { فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } * { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }

{ فلمَّا جنّ } تفريع على قولهوكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } الأنعام 75 بقرينة قوله { رأى كوكباً } فإنّ الكوكب من ملكوت السماوات، وقولِه في المعطوف عليهنُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } الأنعام 75. فهذه الرؤية الخاصّة التي اهتدى بها إلى طريق عجيب فيه إبكات لقومه مُلجىء إيّاهم للاعتراف بفساد معتقدهم، هي فرع من تلك الإراءة التي عمَّت ملكوت السماوات والأرض، لأنّ العطف بالفاء يستدعي مزيد الاتِّصال بين المعطوف والمعطوف عليه لما في معنى الفاء من التفريع والتسبّب، ولذلك نعُدّ جعل الزمخشري { فلما جنّ } عطفاً علىقال إبراهيم لأبيه } الأنعام 74، وجعْله ما بينهما اعتراضاً، غيرَ رشيق. وقوله { جَنّ عليه الليل } أي أظلم الليل إظلاماً على إبراهيم، أي كان إبراهيم محوطاً بظلمة الليل، وهو يقتضي أنَّه كان تحت السَّماء ولم يكن في بيت. ويؤخذ من قوله بعده { قال يا قوم إنِّي بريء مِمَّا تشركون } أنَّه كان سائراً مع فريق من قومه يشاهدون الكواكب، وقد كان قوم إبراهيم صابئين يعبدون الكواكب ويصوّرون لها أصناماً. وتلك ديانة الكلدانيين قوم إبراهيم. يقال جَنَّة الليل، أي أخفاه، وجَنان الليل ـــ بفتح الجيم ـــ، وجنُّه ستره الأشياء المرئية بظلامه الشديد. يقال جنَّة الليل، وهو الأصل. ويقال جَنّ عليه الليل، وهذا يقصد به المبالغة في الستر بالظلمة حتَّى صارت كأنَّها غطاء، ومع ذلك لم يسمع في كلامهم جنّ اللَّيل قاصراً بمعنى أظلم. وظاهر قوله { رأى كوكباً } أنَّه حصلت له رؤية الكواكب عَرَضاً من غير قصد للتأمّل وإلاّ فإنّ الأفق في الليل مملوء كواكبَ، وأنّ الكواكب كان حين رآه واضحاً في السماء مشرقاً بنوره، وذلك أنور ما يكون في وسط السماء. فالظاهر أنَّه رأى كوكباً من بينها شديد الضوء. فعن زيد بن علي أنّ الكوكب هو الزهرة. وعن السدّي أنَّه المشتري. ويجوز أن يكون نَظَر الكواكب فرأى كوكباً فيكون في الكلام إيجاز حذف مثلأنِ اضربْ بعصاك البحر فانفلق } الشعراء 63، أي فضرب فانفلق. وجملة { رأى كوكباً } جواب { لمَّا }. والكوكب النجم. وجملة { قال هذا ربِّي } مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال ينشأ عن مضمون جملة { رأى كوكباً } وهو أن يسأل سائل فماذا كان عندما رآه، فيكون قوله { قال هذا ربِّي } جوباً لذلك. واسم الإشارة هنا لقصد تمييز الكوكب من بين الكواكب ولكنْ إجراؤه على نظيريه في قوله حين رأى القمر وحين رأى الشمس { هذا ربِّي - هذا ربِّي } يعيّن أنّ يكون القصد الأصلي منه هو الكناية بالإشارة عن كون المشار إليه أمراً مطلوباً مبحوثاً عنه فإذا عُثر عليه أشير إليه، وذلك كالإشارة في قوله تعالىلقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث } الروم 56، وقولهقالت فذلكنّ الذي لمتنّني فيه }

السابقالتالي
2 3 4 5 6