الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَذَرِ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }

عطف على جملةفأعرض عنهم } الأنعام 68 أو على جملةوما على الذين يتّقون من حسابهم من شيء } الأنعام 69. وهذا حكم آخر غير حكم الإعراض عن الخائضين في آيات الله ولذلك عطف عليه. وأتي بموصول وصلة أخرى فليس ذلك إظهاراً في مقام الإضمار. و { ذرْ } فعل أمر. قيل لم يرد له ماض ولا مصدر ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول. فتصاريفه هذه مماتة في الاستعمال استغناء عنها بأمثالها من مادّة ترك تجنّباً للثقل واستعملوا مضارعه والأمر منه. وجعله علماء التصريف مثالاً واوياً لأنَّهم وجدوه محذوف أحد الأصول، ووجدوه جارياً على نحو يَعِد ويَرث فجزموا بأنّ المحذوف منه الفاء وأنَّها واو. وإنَّما حذفت في نحو ذَرْ ودَعْ مع أنَّها مفتوحة العين اتِّباعاً للاستعمال، وهو حذف تخفيف لا حذف دفع ثقل، بخلاف حذف يَعِد ويَرث. ومعنى ذَر اترك، أي لا تخالط. وهو هنا مجاز في عدم الاهتمام بهم وقلَّة الاكتراث باستهزائهم كقوله تعالىذَرْني ومن خلقتُ وحيداً } المدثر 11، وقوله { فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث } ، وقول طرفة
فذَرْنِي وخُلْقي إنَّنِي لَك شاكر ولو حلّ بيتِي نَائِياً عند ضَرْغد   
أي لا تبال بهم ولا تهتمّ بضلالهم المستمرّ ولا تشغل قلبك بهم فالتذكير بالقرآن شامل لهم، أو لا تعبأ بهم وذكّرهم به، أي لا يصدّك سوء استجابتهم عن إعادة تذكيرهم. والدّين في قوله { اتَّخذوا دينهم } يجوز أن يكون بمعنى الملَّة، أي مايتديَّنون به وينتحلونه ويتقرّبون به إلى الله، كقول النابغة
مجلّتهم ذات الإله ودينُهم قَويم فما يرجُون غيرَ العَوَاقِب   
أي اتَّخذُوه لعباً ولهواً، أي جعلوا الدين مجموع أمور هي من اللعب واللهو، أي العبث واللهو عند الأصنام في مواسمها، والمكاء والتصدية عند الكعبة على أحد التفسيرين في قوله تعالىوما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاء وتصدية } الأنفال 35. وإنَّما لم يقل اتَّخذوا اللهو واللعب ديناً لمكان قوله { اتَّخذوا } فإنَّهم لم يجعلوا كلّ ما هو من اللهو واللعب ديناً لهم بل عمدوا إلى أن ينتحلوا ديناً فجمعوا له أشياء من اللعب واللهو وسمّوها ديناً. ويجوز أن يكون المراد من الدّين العادة، كقول المُثقّب العبدي
تَقول وقد دَرَأتُ لها وَظِينِي أهَذَا دينُه أبَداً ودينِي   
أي الذين دأبهم اللعب واللهو المعرضون عن الحقّ، وذلك في معاملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم. واللعب واللهو تقدّم تفسيرهما في قوله تعالىوما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو } في هذه السورة 32. والذين اتَّخذوا دينهم لعباً ولهواً فريق عُرفوا بحال هذه الصلة واختصّت بهم، فهم غير المراد من الذين يخوضون في الآيات بل بينهم وبين الذين يخوضون في الآيات فيجوز أن يكون المراد بهم المشركين كلَّهم بناء على تفسير الدين بالملَّة والنِّحلة فهم أعمّ من الذين يخوضون فبينهم العموم والخصوص المطلق.

السابقالتالي
2 3 4