الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ }

{ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ }. استئناف ابتدائي عُقّب به ذكرُ النعمة التي في قوله { قل من يُنجّيكم } بذكر القدرة على الانتقام، تخويفاً للمشركين. وإعادة فعل الأمر بالقول مثل إعادته في نظائره للاهتمام المبيَّن عند قوله تعالىقل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } الأنعام 40. والمعنى قل للمشركين، فالمخاطب بضمائر الخطاب هم المشركون. والمقصود من الكلام ليس الإعلام بقدرة الله تعالى فإنَّها معلومة، ولكن المقصود التهديد بتذكيرهم بأنّ القادر من شأنه أن يُخاف بأسُه فالخبر مستعمل في التعريض مجازاً مرسلاً مركّباً، أو كناية تركيبية. وهذا تهديد لهم، لقولهملولا أنزل عليه آية من ربِّه } يونس 20. وتعريف المسند والمسند إليه أفاد القصر، فأفاد اختصاصه تعالى بالقدرة على بعث العذاب عليهم وأنّ غيره لا يقدر على ذلك فلا ينبغي لهم أن يخشوا الأصنام، ولو أرادوا الخير لأنفسهم لخافوا الله تعالى وأفردوه بالعبادة لمرضاته، فالقصر المستفاد إضافي. والتعريف في { القادر } تعريف الجنس، إذ لا يقدر غيره تعالى على مثل هذا العذاب. والعذاب الذي من فوق مثل الصواعق والريح، والذي من تحت الأرجل مثل الزلازل والخسف والطوفان. و { يلبسكم } مُضارع لَبَسَه ـــ بالتحريك ـــ أي خلطه، وتعدية فعل { يلبسكم } إلى ضمير الأشخاص بتقدير اختلاط أمرهم واضطرابه ومَرجه، أي اضطراب شؤونهم، فإنّ استقامة الأمور تشبه انتظام السلك ولذلك سمَّيت استقامة أمور الناس نظاماً. وبعكس ذلك اختلال الأمور والفوضى تشبه اختلاط الأشياء، ولذلك سمّي مَرَجاً ولَبْساً. وذلك بزوال الأمن ودخول الفساد في أمور الأمّة، ولذلك يقرن الهَرْج وهو القتل بالمَرْج، وهو الخلط فيقال هم في هَرْج ومَرْج، فسكون الراء في الثاني للمزاوجة. وانتصب { شِيَعاً } على الحال من الضمير المنصوب في { يَلْبِسَكم }. والشيَع جمع شيعة ـــ بكسر الشين ـــ وهي الجماعة المتَّحدة في غرض أو عقيدة أو هوى فهم متّفقون عليه، قال تعالىإنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيَعاً لست منهم في شيء } الأنعام 159. وشيعة الرجل أتباعه والمقتدون به قال تعالىوإنّ من شيعته لإبراهيم } الصافات 83 أي من شيعة نوح. وتشتّت الشيع وتعدّد الآراء أشدّ في اللبس والخلط، لأنّ اللبس الواقع كذلك لبس لا يرجى بعده انتظام. وعطف عليه { ويذيق بعضَكم بأس بعض } لأنّ من عواقب ذلك اللبس التقاتل. فالبأس هو القتل والشرّ، قال تعالىوسرابيل تقيكم بأسكم } النحل 81. والإذاقة استعارة للألم. وهذا تهديد للمشركين كما قلنا بطريق المجاز أو الكناية. وقد وقع منه الأخير فإنّ المشركين ذاقوا بأس المسلمين يومَ بدر وفي غزوات كثيرة. في «صحيح البخاري» عن جابر بن عبد الله قال " لما نزلتْ { قُلْ هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } قال رسول صلى الله عليه وسلم أعوذُ بوجهك. قال { أوْ من تحت أرجلكم } قال أعوذ بوجهك قال { أو يلبِسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } قال رسول الله هذا أهون، أو هذا أيسر "

السابقالتالي
2