الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

عطف جملة { وهو الذي يتوفَّاكم } على جملةوما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها } الأنعام 59 انتقالاً من بيان سعة علمه إلى بيان عظيم قدرته لأنّ ذلك كلَّه من دلائل الإلهية تعليماً لأوليائه ونعياً على المشركين أعدائه. وقد جرت عادة القرآن بذكر دلائل الوحدانية في أنفس الناس عقب ذكر دلائلها في الآفاق فجمع ذلك هنا على وجه بديع مؤذن بتعليم صفاته في ضمن دليل وحدانيته. وفي هذا تقريب للبعث بعد الموت. فقوله { وهو الذي يتوفَّاكم } صيغة قصر لتعريف جزأي الجملة، أي هو الذي يتوفَّى الأنفس دون الأصنام فإنَّها لا تملك موتاً ولا حياة. والخطاب موجه إلى المشركين كما يقتضيه السياق السابق من قولهلَقُضي الأمر بيني وبينكم } الأنعام 58 واللاحق من قولهثم أنتم تشركون } الأنعام 64 ويقتضيه طريق القصر. ولمَّا كان هذا الحال غير خاصّ بالمشركين علم منه أنّ الناس فيه سواء. والتوفّي حقيقته الإماتة، لأنَّه حقيقة في قبض الشيء مستوفى. وإطلاقه على النوم مجاز لشبه النوم بالموت في انقضاع الإدراك والعمل. ألا ترى قوله تعالىالله يتوفَّى الأنفسَ حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمَّى } الزمر 42. وقد تقدّم تفصيله عند قوله تعالىإذ قال الله يا عيسى إنِّي متوفِّيك } في سورة آل عمران 55. والمراد بقوله { يتوفَّاكم } ينيمكم بقرينة قوله { ثم يبعثكم فيه } ، أي في النهار، فأراد بالوفاة هنا النوم على التشبيه. وفائدته أنّه تقريب لكيفية البعث يوم القيامة، ولذا استعير البعث للإفاقة من النوم ليتمّ التقريب في قوله { ثم يبعثكم فيه }. ومعنى { جرحتم } كسبتم، وأصل الجرح تمزيق جلد الحيّ بشيء محدّد مثل السكين والسيف والظُفُر والناب. وتقدّم في قولهوالجروح قصاص } في سورة العقود 45. وأطلق على كلاب الصيد وبزاته ونحوها اسمُ الجوارح لأنَّها تجرح الصيد ليُمسكه الصائد. قال تعالىوما عَلَّمتم من الجوارح مكلِّبين } وتقدّم في سورة العقود 4. كما سمَّوها كواسب، كقول لبيد
غُضْفا كَواسبَ ما يُمَنّ طَعَامُها   
فصار لفظ الجوارح مرادفاً للكواسب وشاع ذلك فأطلق على الكسب اسم الجرح، وهو المراد هنا. وقال تعالىأم حسب الذين اجترحوا السيّئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } الجاثية 21. وجملة { ويعلم ما جرحتم بالنهار } معترضة لقصد الامتنان بنعمة الإمهال، أي ولولا فضله لما بعثكم في النهار مع علمه بأنَّكم تكتسبون في النهار عبادة غيره ويكتسب بعضكم بعض ما نهاهم عنه كالمؤمنين. ووقع الاقتصار على الإخبار بعلمه تعالى ما يكسب الناس في النهار دون الليل رعياً للغالب، لأنّ النهار هو وقت أكثر العمل والاكتساب، ففي الإخبار أنّه يعلم ما يقع فيه تحذير من اكتساب ما لا يرضَى الله باكتسابه بالنسبة للمؤمنين، وتهديد للمشركين.

السابقالتالي
2