الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }

هذه الجملة بيان لجملة { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون }. جاء بيانها بطريقة الاستفهام الإنكاري عن عدم رؤية القرون الكثيرة الذين أهلكتهم حوادث خارقة للعادة يدلّ حالها على أنّها مسلّطة عليهم من الله عقاباً لهم على التكذيب. والرؤية يجوز أن تكون قلبية، أي ألم يعلموا كثرة القرون الذين أهلكناهم، ويجوز أن تكون بصربة بتقدير ألم يروا آثار القرون التي أهلكناها كديار عاد وحِجْر ثمود، وقد رآها كثير من المشركين في رحلاتهم، وحدّثوا عنها الناس حتى تواترت بينهم فكانت بمنزلة المرئي وتحقّقتها نفوسهم. وعلى كلا الوجهين ففعل { يَرَوا } معلّق عن العمل في المفعولين أو المفعول، باسم الاستفهام وهو { كم }. وكم اسم للسؤال عن عدد مبهم فلا بدّ بعده من تفسير، وهو تمييزه. كما تقدّم في قوله تعالىسَل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية } في سورة البقرة 211 وتكون خبرية فتدلّ على عدد كبير مبهم ولا بدّ من مفسّر هو تمييز للإبهام. فأمّا الاستهامية فمفسّرها منصوب أو مجرور، وإن كانت خبرية فمفسّرها مجرور لا غير، ولمّا كان كم اسماً في الموضعين كان له موقع الأسماء بحسب العوامل رفعٌ ونصب وجرّ، فهي هنا في موضع مفعول أو مفعولين { ليرَوا }. ومَنْ فزائدة جارّة لمميّز { كم } الخبرية لوقوع الفصل بينها وبين مميّزها فإنّ ذلك يوجب جرّه بـ من، كما بيّناه عند قوله تعالى { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة } في سورة البقرة. والقرن أصله الزمن الطويل، وكثر إطلاقه على الأمّة التي دامت طويلاً. قال تعالى { من بعد ما أهلكنا القرون الأولى }. وفسّر القرن بالأمّة البائدة. ويطلق القرن على الجيل من الأمّة، ومنه حديث " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ". ويطلق على مقدار من الزمن قدره مائة سنة على الأشهر، وقيل غير ذلك. وجملة { مكّنّاهم } صفة لـ { قرن } وروعي في الضمير معنى القرن لأنّه دالّ على جمع. ومعنى { مكّنّاهم في الأرض } ثبّتناهم وملّكناهم، وأصله مشتقّ من المكان. فمعنى مكّنه ومكّن له، وضع له مكاناً. قال تعالى { أو لم نمكّن لهم حرماً آمناً }. ومثله قولهم أرَضَ له. ويكنّى بالتمكين عن الإقدار وإطلاق التصرّف، لأنّ صاحب المكان يتصرّف في مكانه وبيته ثم يطلق على التثبيت والتقوية والاستقلال بالأمر. ويقال هو مكين بمعنى مُمَكّن، فعيل بمعنى مفعول. قال تعالى { إنّك اليوم لدينا مكين أمين } فهو كناية أيضاً بمرتبة ثانية، أو هو مجاز مرسل مرتّب على المعنى الكنائي. والتمكين في الأرض تقوية التصرّف في منافع الأرض والاستظهار بأساباب الدنيا، بأن يكون في منعة من العدوّ وفي سعة في الرزق وفي حسن حال، قال تعالى { إنّا مكنّا له في الأرض } ، وقال { الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة } الآية.

السابقالتالي
2 3