الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }

معنى هذه الآية غامض بدءاً. ونهايتها أشدّ غموضاً، وموقعها في هذا السياق خفي المناسبة. فاعلَم أنّ معنى قوله { وما من دابّة في الأرض } إلى قوله { إلاّ أمم أمثالكم } أنّ لها خصائص لكلّ جنس ونوع منها كما لأمم البشر خصائصها، أي جعل الله لكلّ نوع ما به قوامه وألهمه اتِّباع نظامه وأنّ لها حياة مؤجّلة لا محالة. فمعنى { أمثالكم } المماثلة في الحياة الحيوانية وفي اختصاصها بنظامها. وأمّا معنى قوله { ثم إلى ربّهم يحشرون } أنّها صائرة إلى الموت. ويعضّده ما روي عن ابن عباس حشر البهائم موتها، أي فالحشر مستعمل في مجاز قريب إلى حقيقته اللغوية التي في نحو قوله تعالىوحشر لسليمان جنوده } النمل 17. فموقع هذه الآية عند بعض المفسّرين أنّها بمنزلة الدليل على مضمون قوله تعالىقل إنّ الله قادر على أن ينزّل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون } الأنعام 37، فيجوز أن تكون معطوفة على جملةإنّ الله قادر على أن ينزّل آية } الأنعام 37 على أنّها من جملة ما أمر النبي بأن يقوله لهم ويجوز أن تكون معطوفة على جملةقُل إنّ الله قادر } الأنعام 37 على أنّها من خطاب الله لهم. أي أنّ الذي خلق أنواع الأحياء كلِّها وجعلها كالأمم ذات خصائص جامعة لأفراد كلّ نوع منها فكان خلقها آية على عظيم قدرته لا يعجزه أن يأتي بآية حسب مقترحكم ولكنّكم لا تعلمون الحكمة في عدم إجابتكم لما سألتم. ويكون تعقيبه بقوله تعالىوالّذين كذّبوا بآياتنا صمّ وبُكْم } الأنعام 39 الآية واضح المناسبة، أي لا يهتدون إلى ما في عوالم الدواب والطير من الدلائل على وحدانية الله. وأمّا قوله { ثمّ إلى ربّهم يحشرون } فإن نظرنا إليه مستقلاً بنصّه غير ملتفتين إلى ما نيط به من آثار مروية في تفسيره فأول ما يبدو للناظر أنّ ضميري { ربّهم } و { يحشرون } عائدان إلى { دابّة } و { طائر } باعتبار دلالتهما على جماعات الدّواب والطير لوقوعهما في حيّز حرف مِنْ المفيدة للعموم في سياق النفي، فيتساءل الناظر عن ذلك وهما ضميران موضوعان للعقلاء. وقد تأولوا لوقوع الضميرين على غير العقلاء بوجهين أحدهما أنّه بناءٌ على التغليب إذ جاء بعده { إلاّ أمم أمثالكم }. الوجه الثاني أنّهما عائدان إلى { أمم أمثالكم } ، أي أنّ الأمم كلّها محشورة إلى الله تعالى. وأحسن من ذلك تأويلاً أن يكون الضميران عائديْن إلى ما عادت إليه ضمائر الغيبة في هذه الآيات التي آخرها ضمير { وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربّه } ، فيكون موقع جملة { ثم إلى ربّهم يحشرون } موقع الإدماج والاستطراد مجابهة للمشركين بأنَّهم محشورون إلى الله لا محالة وإن أنكروا ذلك. فإذا وقع الإلتفات إلى ما روي من الآثار المتعلّقة بالآية كان الأمر مُشكلاً.

السابقالتالي
2 3 4