الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي ٱلسَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ }

عطف على جملةقد نعلم إنّه لَيُحْزنك الذي يقولون } الأنعام 33، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحزنه ما يقولونه فيه من التكذيب به وبالقرآن حَزَناً على جهل قومه بقدر النصيحة وإنكارهم فضيلة صاحبها، وحزناً من جرّاء الأسف عليهم من دوام ضلالهم شفقة عليهم، وقد سلاّه الله تعالى عن الحزن الأول بقولهفإنّهم لا يكذبونك } الأنعام 33 وسلاّه عن الثاني بقوله { وإن كانَ كَبُر عليك إعراضهم } الآية. و { كبُر } ككرم، كِبراً كعنب عظمت جثّته. ومعنى { كَبُر } هنا شقّ عليك. وأصله عظم الجثّة، ثم استعمل مجازاً في الأمور العظيمة الثقيلة لأنّ عظم الجثّة يستلزم الثقل، ثم استعمل مجازاً في معنى شقّ لأنّ الثقيل يشق جمله. فهو مجاز مرسل بلزومين. وجيء في هذا الشرط بحرف إنْ الذي يكثر وروده في الشرط الذي لا يظنّ حصوله للإشارة إلى أنّ الرسول ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ ليس بمظنّة ذلك ولكنّه على سبيل الفرض. وزيدت كان بعد إنْ الشرطية بينها وبين ما هو فعل الشرط في المعنى ليبقى فعل الشرط على معنى المضي فلا تُخلّصه إن الشرطيّةُ إلى الاستقبال، كما هو شأن أفعال الشروط بعد إن، فإنّ كان لقوّة دلالته على المضي لا تقلبه أداة الشرط إلى الاستقبال. والإعراض المعرّف بالإضافة هو الذي مضى ذكره في قوله تعالىوما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين } الأنعام 4. وهو حالة أخرى غير حالة التكذيب، وكلتاهما من أسباب استمرار كفرهم. وقوله { فإن استطعت } جوابُ { إن كان كبر } ، وهو شرط ثان وقع جواباً للشرط الأول. والاستطاعة القدرة. والسين والتاء فيها للمبالغة في طاع، أي انقاد. والابتغاء الطلب. وقد تقدّم عند قوله تعالىأفغير دين الله تبغون } في سورة آل عمران 83، أي أن تَطْلُبَ نَفَقاً أو سُلّماً لتبلغ إلى خبايا الأرض وعجائبها وإلى خبايا السماء. ومعنى الطلب هنا البحث. وانتصب { نفقاً } و { سُلّما } على المفعولين لــ { تبتغي }. والنفق سرب في الأرض عميق. والسّلَّم ـــ بضمّ ففتح مع تشديد اللاّم ـــ آلة للارتقاء تتّخذ من حبلين غليظين متوازيين تصل بينهما أعواد أو حبال أخرى متفرّقة في عرض الفضاء الذي بين الحبلين من مساحة ما بين كلّ من تلك الأعواد بمقدار ما يرفع المرتقي إحدَى رجليه إلى العود الذي فوق ذلك، وتسمّى تلك الأعواد دَرَجَات. ويجعلُ طول الحبلين بمقدار الارتفاع الذي يراد الارتقاء إليه. ويسمَّى السلّم مِرْقاة ومِدْرَجة. وقد سمّوا الغرز الذي يرتقي به الراكب على رحل ناقته سُلّما. وكانوا يرتقون بالسلّم إلى النخيل للجذاذ. وربما كانت السلاليم في الدور تتّخذ من العود فتسمّى المرقاة. فأمّا الدرج المبنيّة في العَلالي فإنّها تُسَمَّى سُلّماً وتسمّى الدّرَجة كما ورد في حديث مقتل أبي رافع قول عبد الله بن عتيك في إحدى الروايات

السابقالتالي
2 3