الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }

انتقال من الاستدلال على إثبات ما يليق بالله من الصفات، إلى إثبات صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى جعْللِ الله حكماً بينه وبين مكذّبيه، فالجملة استئناف ابتدائي، ومناسبة الانتقال ظاهرة. روى الواحدي في «أسباب النزول» عن الكلبي أنّ رؤساء مكّة قالوا يا محمد ما نرى أحداً مصدّقَك بما تقول، وقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرُك ولا صفتك فأرِنا من يشهد أنّك رسول الله. فنزلت هذه الآية. وقد ابتدئت المحاورة بأسلوب إلقاء استفهام مستعمل في التقرير على نحو ما بيّنته عند قوله تعالىقل لمن ما في السماوات والأرض } الأنعام 12 ومثل هذا الأسلوب لإعداد السامعين لتلقّي ما يرد بعد الاستفهام. وأي اسم استفهام يطلب به بيان أحد المشتركات فيما أضيف إليه هذا الاستفهام، والمضاف إليه هنا هو { شيء } المفسّر بأنَّه من نوع الشهادة. و { شَيء } اسم عامّ من الأجناس العالية ذات العموم الكثير، قيل هو الموجود، وقيل هو ما يعلم ويصحّ وجوده. والأظهر في تعريفه أنّه الأمر الذي يعلم. ويجري عليه الإخبار سواء كان موجوداً أو صفة موجود أو معنى يتعقّل ويتحاور فيه، ومنه قوله تعالىفقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنّا تراباً ذلك رجْع بعيد } ق 2، 3. وقد تقدّم الكلام على مواقع حسن استعمال كلمة شيء ومواقع ضعفها عند قوله تعالىولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع } في سورة البقرة 155. { وأكبَرُ } هنا بمعنى أقوى وأعدل في جنس الشهادات، وهو من إطلاق ما مدلوله عظم الذات على عظم المعنى، كقوله تعالىورضوان من الله أكبر } التوبة 72 وقولهقل قتال فيه كبير } وقد تقدّم في سورة البقرة 217. وقوة الشهادة بقوة اطمئنان النفس إليها وتصديق مضمونها. وقوله { شهادة } تمييز لنسبة الأكبرية إلى الشيء فصار ماصْدق الشيء بهذا التمييز هو الشهادة. فالمعنى أيّة شهادة هي أصدق الشهادات، فالمستفهم عنه بِــ { أي } فرد من أفراد الشهادات يطلب عِلم أنَّه أصدق أفراد جنسه. والشهادة تقدّم بيانها عند قوله تعالىشهادة بينكم } في سورة المائدة 106. ولمّا كانت شهادة الله على صدق الرسول غير معلومة للمخاطبين المكذّبين بأنّه رسول الله، صارت شهادة الله عليهم في معنى القسم على نحو قوله تعالىويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الكاذبين } النور 8 أي أن تُشهد الله على كذب الزوج، أي أن تحلف على ذلك بسم الله، فإنّ لفظ أشهد الله من صيغ القسم إلاّ أنّه إن لم يكن معه معنى الإشهاد يكون مجازاً مرسلاً، وإن كان معه معنى الإشهاد كما هنا فهو كناية عن القسم مراد منه معنى إشهاد الله عليهم، وبذلك يظهر موقع قوله { الله شهيد بيني وبينكم } ، أي أشهده عليكم.

السابقالتالي
2 3