الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

يَظهر أنّ هذا دليل على إمكان البعث، وعلى وقوعه، لأنّ الذي جعل بعض الأجيال خلائف لما سبَقَها، فعمَروا الأرض جيلاً بعد جيل، لا يُعجزه أن يحشرها جميعاً بعد انقضاء عالم حياتها الأولى. ثمّ إنّ الذي دبَّر ذلك وأتقنه لا يليق به أن لا يقيم بينهم ميزان الجزاء على ما صنعوا في الحياة الأولى لئلا يذهب المعتدون والظّالمون فائزين بما جنوا، وإذا كان يقيم ميزان الجزاء على الظّالمين فكيف يترك إثابة المحسنين، وقد أشار إلى الشقّ الأول قوله { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } ، وأشار إلى الشقّ الثّاني قوله { ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلونكم في ما آتاكم }. ولذلك أعقبه بتذييله { إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم }. فالخطابُ موجَّه إلى المشركين الذين أمِر الرّسولُ عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهمأغير الله أبغي رباً } الأنعام 164 وذلك يذكّر بأنَّهم سيصيرون إلى ما صار إليه أولئك. فموقع هذه عقب قولهثم إلى ربكم مرجعكم } الأنعام 164 تذكير بالنّعمة، بعد الإنذار بسلبها، وتحريض على تدارك ما فات، وهو يفتح أعينهم للنّظر في عواقب الأمم وانقراضها وبقائها. ويجوز أن يكون الخطاب للرّسول عليه الصّلاة والسّلام والأمّة الإسلاميّة، وتكون الإضافة على معنى اللام، أي جعلكم خلائف الأمم التي ملكتْ الأرض فأنتم خلائفُ للأرض، فتكون بشارة للأمّة بأنَّها آخر الأمم المجعولة من الله لتعمير الأرض. والمراد الأمم ذوات الشّرائع الإلهيّة وأياً ما كان فهو تذكير بعظيم صنع الله ومنّته لاستدعاء الشّكر والتّحذير من الكفر. والخلائف جمع خليفة، والخليفة اسم لما يُخلف به شيء، أي يجعل خلفاً عنه، أي عوضَه، يقال خليفة وخِلْفة، فهو فَعيل بمعنى مفعول، وظهرت فيه التّاء لأنَّهم لما صيّروه اسماً قطعوه عن موصوفه. وإضافته إلى الأرض على معنى في على لوجه الأوّل، وهو كون الخَطاب للمشركين، أي خلائف فيها، أي خلف بكم أمماً مضت قبلكم كما قال تعالى حكاية عن الرّسل في مخاطبة أقوامهمواذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } الأعراف 69 ــــواذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } الأعراف 74 ــــعسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } الأعراف 129. والإضافة على معنى اللام على الوجه الثّاني وهو كون الخطاب للمسلمين. وفي هذا أيضاً تذكير بنعمة تتضمّن عبرة وموعظة وذلك أنَّه لمّا جعلهم خلائف غيرهم فقد أنشأهم وأوجدهم على حين أعدم غيرهم، فهذه نعمة، لأنَّه لو قدّر بقاء الأمم التي قبلها لما وُجد هؤلاء. وعطْف قوله { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } يجري على الاحتمالين في المخاطب بقوله { جعلكم خلائف الأرض } فهو أيضاً عبرة وعِظة، لعدم الاغترار بالقوّة والرّفعة، ولجعل ذلك وسيلة لشكر تلك النّعمة والسّعي في زيادة الفضل لمن قصّر عنها والرّفق بالضّعيف وإنصاف المظلوم.

السابقالتالي
2