الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

من عادة القرآن أنَّه إذا أنذر أعقب الإنذار ببشارة لمن لا يحقّ عليه ذلك الإنذار، وإذا بَشَّر أعقب البشارة بنذارة لمن يتَّصف بضدّ ما بشر عليه، وقد جرى على ذلك ههنا فإنَّه لمّا أنذر المؤمنين وحذرهم من التريُّثثِ في اكتساب الخير، قبل أن يأتي بعض آياتتِ الله القاهرة، بقولهلاَ يَنْفَع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } الأنعام 158 فحَدّ لَهم بذلك حدّاً هو من مظهر عدله، أعقب ذلك ببشرى من مظاهر فضله وعَدله. وهي الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها والجزاء على السيّئة بمثلها، فقوله { من جاء بالحسنة } إلى آخره استئناف ابتدائي جرى على عرف القرآن في الانتقال بين الأغراض. فالكلام تذييل جامع لأحوال الفريقين اللذين اقتضاهما قولهلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } الأنعام 158. وهذا بيان لبعض الإجمال الذي في قوله { لا ينفع نفساً إيمانها } الآية، كما تقدّم آنفاً. و { جاء بالحسنة } معناه عمل الحسنة شبه عمله الحسنة بحال المكتسب، إذ يخرج يطلب رزقاً من وجوهه أو احتطاب أو صيد فيجيء أهله بشيء. وهذا كما استعير له اسم التِّجارة في قوله تعالىفما ربحت تجارتهم } البقرة 16. فالباء للمصاحبة، والكلام تمثيل، ويجوز حمل المجيء على حقيقته، أي مجيء إلى الحساب على أن يكون المراد بالحسنة أن يجيء بكتابتها في صحيفة أعماله. وأمْثال الحسنة ثواب أمثالها، فالكلام على حذف مضاف بقرينة قوله { فلا يجزي إلا مثلها } ، أو معناه تحسب له عشرُ حسنات مثل التي جاء بها كما في الحديث " كتبها الله عنده عشر حسنات " ويعرف من ذلك أنّ الثّواب على نحو ذلك الحساب كما دلّ عليه قوله { فلا يجزي إلا مثلها }. والأمثال جمع مِثْل وهو المماثل المساوي، وجيء له باسم عدد المؤنّث وهو عشر اعتباراً بأنّ الأمثال صفة لموصوف محذوف دلّ عليه الحسنة أي فله عشر حسنات أمثالها، فروعي في اسم العدد معنى مميّزه دون لفظه وهو أمثال. والجزاء على الحسنة بعشرة أضعاف فضلٌ من الله، وهو جزاء غالب الحسنات، وقد زاد الله في بعض الحسنات أن ضاعفها سبعمائة ضِعْف كما في قوله تعالىمثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } البقرة 261 فذلك خاصّ بالإنفاق في الجهاد. وفي الحديث " من هَمّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة " وقرأ الجمهور { عَشرُ أمثالِها } بإضافة { عشر } إلى { أمثالها }. وهو من إضافة الصّفة إلى الموصوف، وقرأه يعقوب ــــ بتنوين { عشر } ورفع { أمثالها } ، على أنّه صفة لــــ { عشر } ، أي فله عشر حسنات مماثلة للحسنة التي جاء بها.

السابقالتالي
2