الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }

استئناف جاء عقب الوعيد كالنّتيجة والفذلكة، لأنّ الله لما قال لرسوله صلى الله عليه وسلمقل انتظروا إنا منتظرون } الأنعام 158 أعقب ذلك بأنّ الفريقين متباينان مُتجافيان في مدّة الانتظار. وجيء بالموصوليّة لتعريف المسند إليه لإفادة تحقّق معنى الصّلة فيهم، لأنَّها تناسب التّنفير من الاتّصال بهم، لأنّ شأن الدّين أن يكون عقيدة واحدة وأعمالاً واحدة، والتّفرّق في أصوله ينافي وحدته، ولذلك لم يزل علماء الإسلام يبْذلون وسعهم لاستنباط مراد الله من الأمّة، ويعلمون أنّ الحقّ واحدٌ وأنّ الله كلّف العلماء بإصابته وجعل للمصيب أجرين ولمن أخطأه مع استفراغ الوسع أجراً واحداً، وذلك أجر على بذل الوسع في طلبه فإنّ بذل الوسع في ذلك يوشك أن يُبلِّغ المقصود. فالمراد بــــ { الذين فرّقوا دينهم } قال ابن عبّاس هم المشركون، لأنَّهم لم يَتّفقوا على صورة واحدة في الدين، فقد عبدت القبائل أصناماً مختلفة، وكان بعض العرب يعبدون الملائكة، وبعضهم يعبد الشّمس، وبعضهم يعبد القمر، وكانوا يجعلون لكلّ صنم عبادة تخالف عبادة غيره. ويجوز أن يراد أنَّهم كانوا على الحنيفيّة، وهي دين التّوحيد لجميعهم، ففرّقوا وجعلوا آلهة عباداتها مختلفة الصّور. وأمّا كونهم كانوا شيعاً فلأنّ كلّ قبيلة كانت تنتصر لصنمها، وتزعم أنّه ينصرهم على عُبَّاد غيره كما قال ضِرار بن الخطّاب الفهري
وفَرّت ثقيفٌ إلى لاتها بمنقلَب الخائب الخاسر   
ومعنى { لست منهم في شيء } أنّك لا صلة بينك وبينهم. فحرف مِن اتّصالية. وأصلها من الابتدائيّة. و { شيء } اسم جنس بمعنى موجود فنفيه يفيد نفي جميع ما يوجد من الاتّصال، وتقدّم عند قوله تعالىومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } في سورة آل عمران 28، وقولهلستم على شيء } في سورة المائدة 68. ولمّا دلّت على التبرّي منهم وعدم مخالطتهم، كان الكلام مثار سؤال سائل يقول أعلى الرّسول أن يتولّى جَزاءهم على سُوء عملهم، فلذلك جاء الاستئناف بقوله { إنما أمرهم إلى الله } فهو استئناف بياني، وصيغة القصر لقلب اعتقاد السائل المتردّد، أي إنَّما أمرهم إلى الله لا إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولا إلى غيره، وهذا إنذار شديد، والمراد بأمرهم عملهم الذي استحقوا به الجزاء والعقوبة. وإلى مستعمل في الانتهاء المجازي شبّه أمرهم بالضالّة التي تركها النّاس فسارت حتّى انتهت إلى مراحها، فإنّ الخلق كلّهم عبيد الله وإليه يرجعون، والله يمهلهم ثمّ يأخذهم بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين حين يأذن لرسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم كما قال تعالىفارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربَّنا اكشف عنا العذاب إنَّا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلَّم مجنون إنَّا كاشفوا العذاب قليلاً إنّكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون }

السابقالتالي
2