الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }

{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ }. عطف جملة { ولا تقربوا } على الجملة التي فَسَّرت فعلأتْلُ } الأنعام 151 عطف محرّمات ترجع إلى حفظ قواعد التّعامل بين النّاس لإقامة قواعد الجامعة الإسلاميّة ومدنيتها وتحقيق ثقة النّاس بعضهم ببعض. وابتدأها بحفظ حقّ الضّعيف الذي لا يستطيع الدّفع عن حقّه في ماله، وهو اليتيم، فقال { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } والقِربان كناية عن ملابسة مال اليتيم. والتّصرّف فيه كما تقدّم آنفاً في قولهولا تقربوا الفواحش } الأنعام 151. ولمَّا اقتضى هذا تحريم التصرّف في مال اليتيم، ولو بالخزن والحفظ، وذلك يعرّض ماله للتّلف، استُثني منه قوله { إلا بالتي هي أحسن } أي إلاّ بالحالة التي هي أحسن، فاسم الموصول صفة لموصوف محذوف يقدّر مناسباً للموصول الذي هو اسم للمؤنَّث، فيقدر بالحالة أو الخَصلة. والباء للملابسة، أي إلاّ ملابسين للخصلة أو الحالة التي هي أحسن حالات القرب، ولك أن تقدّره بالمرّة من { تقربوا } أي إلاّ بالقَربة التي هي أحسن. وقد التزم حذف الموصوف في مثل هذا التّركيب واعتباره مؤنَّثاً يجري مجرى المثل، ومنه قوله تعالىادفع بالتي هي أحسن السيئة } المؤمنون 96 أي بالخصلة الحسنة ادفَعْ السيّئة، ومن هذا القبيل أنَّهم أتوا بالموصول مؤنَّثاً وصفاً لمحذوف ملتزم الحذف وحذفوا صلته أيضاً في قولهم في المثل «بعد اللَّتَيَّا والتي»، أي بعد الدّاهية الحقيرة والدّاهية الجليلة كما قال سُلْمِيّ بنُ ربيعةَ الضبِّي
ولقد رأبْتُ ثَأى العشيرة بينَها وكفيتُ جانبها اللَّتَيَّا والتِي   
و { أحسنُ } اسم تفضيل مسلوب المفاضلة، أي الحسنة، وهي النّافعة التي لا ضرّ فيها لليتيم ولا لِماله. وإنَّما قال هنا { ولا تقربوا } تحذيراً من أخذ ماله ولو بأقلّ أحوال الأخذ لأنَّه لا يدفع عن نفسه، ولذلك لم يقل هنا { ولا تأكلوا } كما قال في سورة البقرة 188ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } والأشُدّ اسم يدلّ على قوّة الإنسان، وهو مشتقّ من الشدّ وهو التوثّق، والمراد به في هذه الآية ونظائرها، ممّا الكلام فيه على اليتيم، بلوغه القوّة التي يخرج بها من ضعف الصّبا، وتلك هي البلوغ مع صحّة العقل، لأنّ المقصود بلوغه أهليّة التصرّف في ماله. وما منع الصّبي من التصرّف في المال إلاّ لضعف في عقله بخلاف المراد منه في أوصاف الرّجال فإنَّه يُعنى به بلوغ الرجل منتهى حدّ القوّة في الرّجال وهو الأربعون سنة إلى الخمسين قال تعالىحتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة } الأحقاف 15 وقال سُحيم بن وَثيل
أخُو خمسين مُجتمع أشُدّي وَنَجَّذني مداورة الشُّؤون   
والبلوغ الوصول، وهو هنا مجاز في التدرّج في أطوار القوّة المخرِجة من وهن الصّبا. و { حتى } غاية للمستثنى وهو القربان بالتي هي أحسن، أي التصرّف فيه إلى أن يبلغ صاحبه أشدّه أي فيسلم إليه، كما قال تعالى في الآية الأخرى

السابقالتالي
2 3 4 5