الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

استئناف ابتدائي للانتقال من إبطال تحريم ما ادّعوا تحريمه من لحوم الأنعام، إلى دعوتهم لمعرفة المحرّمات، التي علمُها حقّ وهو أحقّ بأنْ يعلموه ممّا اختلقوا من افترائهم وموّهوا بجدلهم. والمناسبة لهذا الانتقال ظاهرة فالمقام مقامُ تعليم وإرشاد، ولذلك ابتدىء بأمر الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بفعل القول استرعاء للأسماع كما تقدّم آنفاً. وعُقّب بفعل { تعالوا } اهتماماً بالغرض المنتقل إليه بأنَّه أجدى عليهم من تلك السّفاسف التي اهتمّوا بها وهذا على أسلوب قوله تعالىليس البِرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر } البقرة 177 الآيات. وقولهأجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كَمَنْ آمن بالله واليوم الآخر } التوبة 19 الآية، ليعلموا البون بين ما يَدعون إليه قومهم وبين ما يدعوهم إليه الإسلام، من جلائل الأعمال، فيعلموا أنَّهم قد أضاعوا أزمانهم وأذهانهم. وافتتاحه بطلب الحضور دليل على أنّ الخطاب للمشركين الذين كانوا في إعراض. وقد تلا عليهم أحكاماً قد كانوا جارين على خلافها ممّا أفسد حالهم في جاهليتهم، وفي ذلك تسجيل عليهم بسوء أعمالهم ممّا يؤخذ من النّهي عنها والأمر بضدّها. وقد انقسمت الأحكام التي تضمّنتها هذه الجمل المتعاطفة في الآيات الثّلاث المفتتحة بقوله { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى ثلاثة أقسام الأوّل أحكام بها إصلاح الحالة الاجتماعية العامَّة بين النّاس وهو ما افتتح بقوله { ألاَّ تشركوا به شيئاً }. الثّاني ما به حفظ نظام تعامل النّاس بعضِهم مع بعض وهو المفتتح بقولهولا تَقْرَبوا مال اليتيم } الأنعام 152. الثّالث أصل كلي جامع لجميع الهدى وهو اتّباع طريق الإسلام والتّحرّز من الخروج عنه إلى سبل الضّلال وهو المفتتح بقولهوأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } الأنعام 153. وقد ذيّل كلّ قسم من هذه الأقسام بالوصاية به بقوله { ذلكم وصاكم به } ثلاث مرّات. وتعالَ فعل أمر، أصله يُؤْمر به من يراد صعوده إلى مكان مرتفع فوق مكانه، ولعلّ ذلك لأنَّهم كانوا إذا نَادوا إلى أمر مهمّ ارتقَى المنادي على ربوة ليُسمَع صوته، ثمّ شاع إطلاق تَعالَ على طلب المجيء مجازاً بعلاقة الإطلاق فهو مجاز شائع صار حقيقة عرفية، فأصله فعل أمر لا محالة من التعالي وهو تكلّف الاعتلاء ثمّ نقل إلى طلب الإقبال مطلقاً، فقيل هو اسم فعللِ أمر بمعنى اقدَمْ، لأنَّهم وجدوه غير متصرّف في الكلام إذ لا يقال تعاليتُ بمعنى قَدِمت، ولا تعالَى إليّ فلان بمعنى جاء، وأيّاً ما كان فقد لزمته علامات مناسبة لحال المخاطب به فيقال تعالوا وتَعالَيْن. وبذلك رجَّح جمهور النّحاة أنَّه فعل أمر وليس باسْم فِعل، ولأنَّه لو كان اسم فعل لما لحقتْه العلامات، ولكان مثل هَلُمّ وهَيْهات.

السابقالتالي
2 3 4