الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَٰدِقُونَ }

جملة { وعلى الذين هادوا حرمنا } عَطْف على جملةقُل } الأنعام 145 عطفَ خبر على إنشاء، أي بيِّن لهم ما حرّم في الإسلام، واذكُرْ لهم ما حرّمنا على الّذين هادوا قبل الإسلام، والمناسبة أنّ الله لمّا أمر نبيّه عليه الصلاة والسلام أن يبيّن ما حَرّم الله أكله من الحيوان، وكان في خلال ذلك تنبيه على أنّ ما حرّمه الله خبيث بعضُه لا يصلح أكله بالأجساد الّذي قال فيهفإنه رجس } الأنعام 145، ومنه ما لا يلاقي واجب شكر الخالق وهو الّذي قال فيهأو فِسقاً أهل لغير الله به } الأنعام 145 أعقب ذلك بذكر ما حرّمه على بني إسرائيل تحريماً خاصّاً لحكمة خاصّة بأحوالهم، وموقَّتة إلى مجيء الشّريعة الخاتمة. والمقصود من ذكر هذا الأخير أن يظهر للمشركين أنّ ما حرّموه ليس من تشريع الله في الحال ولا فيما مضى، فهو ضلال بحت. وتقديم المجرور على متعلَّقة في قوله { وعلى الذين هادوا حرمنا } لإفادة الاختصاص، أي عليهم لا على غيرهم من الأمم. والظفر العظم الذي تحت الجلد في منتهى أصابع الإنسان والحيوان والمخالب، وهو يقابل الحافر والظلف ويكون للإبل والسّبع والكلب والهرّ والأرنب والوبْر ونحوها فهذه محرّمة على اليهود بنص شريعة موسى عليه السّلام ففي الإصحاح الرابع عشر من سفر التّثنية «الجمل والأرنب والوَبْر فلا تأكلوها». والشّحوم جمع شحم، وهو المادّة الدُهنية التي تكون مع اللّحم في جسد الحيوان، وقد أباح الله لليهود أكل لحوم البقر والغنم وحرم عليهم شحومهما إلاّ ما كان في الظهر. و { الحوايا } معطوف على { ظهورهما }. فالمقصود العطف على المباح لا على المحرّم، أي أو ما حملت الحوايا، وهي جمع حَوِيَّة، وهي الأكياس الشَّحميّة التي تحوي الأمعاء. { أو ما اختلط بعظم } هو الشّحم الذي يكون ملتفّاً على عَظْم الحيوان من السِّمَن فهو معفو عنه لعسر تجريده عن عظمه. والظّاهر أنّ هذه الشّحوم كانت محرّمة عليهم بشريعة موسى عليه السّلام، فهي غير المحرّمات التي أجملتها آية سورة النّساء 160 بقوله تعالىفبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أحلّت لهم } كما أشرنا إليه هنالك لأنّ الجرائم التي عدّت عليهم هنالك كلّها ممّا أحدثوه بعد موسى عليه السّلام. فقوله تعالى { ذلك جزيناهم ببغيهم } يراد منه البغي الذي أحدثوه زمن موسى. في مدّة التيه، ممّا أخبر الله به عنهم مثل قولهملن نصبِرَ على طعام واحد } البقرة 61 وقولهمفاذْهَب أنت وربّك فقاتلا } المائدة 24 وعبادتِهم العِجْل. وقد عدّ عليهم كثير من ذلك في سورة البقرة. ومناسبة تحريم هذه المحرّمات للكون جزاءً لبغيهم أنّ بغيهم نشأ عن صلابة نفوسهم وتغلّب القوّة الحيوانيّة فيهم على القوّة المَلكيّة، فلعلّ الله حرّم عليهم هذه الأمور تخفيفاً من صلابتهم، وفي ذلك إظهار منَّته على المسلمين بإباحة جميع الحيوان لهم إلاّ ما حرّمه القرآن وحرّمتْه السنّة ممّا لم يختلف فيه العلماء وما اختلفوا فيه.

السابقالتالي
2