الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

استئناف بياني نشأ عن إبطال تحريم ما حرّمه المشركون، إذ يتوجّه سؤال سائل من المسلمين عن المحرّمات الثابتة، إذْ أبطلت المحرّمات الباطلة، فلذلك خوطب الرّسول صلى الله عليه وسلم ببيان المحرّمات في شريعة الإسلام بعد أن خوطب ببيان ما ليس بمحرّم ممّا حرّمه المشركون في قولهقل ءآلذّكرين حرم أم الأنثيين } الأنعام 144 الآيات. وافتُتح الكلام المأمورُ بأن يقوله بقوله { لا أجد } إدماجاً للردّ على المشركين في خلال بيان ما حُرّم على المسلمين، وهذا الردّ جار على طريقة كناية الإيماء بأن لم يُنْفَ تحريم ما ادّعوا تحريمه صريحاً، ولكنّه يقول لا أجده فيما أوحي إليّ ويستفاد من ذلك أنَّه ليس تحريمه من الله في شرعه، لأنَّه لا طريق إلى تحريم شيء ممّا يتناوله النّاس إلاّ بإعلام من الله تعالى، لأنّ الله هو الّذي يُحلّ ما شاء ويحرّم ما شاء على وفق علمه وحكمته، وذلك الإعلام لا يكون إلاّ بطريق الوحي أو ما يُستنبط منه، فإذا كان حكم غير موجود في الوحي ولا في فروعه فهو حكم غير حقّ، فاستفيد بطلان تحريم ما زعموه بطريقة الإيماء، وهي طريقة استدلالية لأنّ فيها نفي الشّيء بنفي ملزومه. و { أجد } بمعنى أظفر، وهو الّذي مصدره الوَجد والوجدانُ، وهو هنا مجاز في حصول الشّيء وبلوغه، يقال وجَدْت فلاناً ناصراً، أي حصلت عليه، فشبّه التّحصيل للشّيء بالظفَر وإلْفاءِ المطلوب، وهو متعدّ إلى مفعول واحد. والمراد، بــــ { ما أوحي } ما أعلمه الله رسوله صلى الله عليه وسلم بوحي غير القرآن لأنّ القرآن النّازل قبل هذه الآية ليس فيه تحريم الميتة والدّم ولحم الخنزير وإنَّما نزل القرآن بتحريم ما ذكر في هذه الآية ثمّ في سورة المائدة. والطاعم الآكِلُ، يقال طَعِم كَعَلِم، إذا أكل الطَّعام، ولا يقال ذلك للشَّارب، وأمَّا طَعِم بمعنى ذاق فيستعمل في ذوق المطعومات والمشروبات، وأكثر استعماله في النّفي، وتقدّم بيانه عند قوله تعالىومن لم يطعَمْه فإنَّه منّي } في سورة البقرة 249، وبذلك تكون الآية قاصرة على بيان محرّم المأكولات. وقوله { يطعمه } صفة لطاعم وهي صفة مؤكّدة مثل قولهولا طائر يطير بجناحيه } الأنعام 38. والاستثناء من عموم الأكوان الّتي دلّ عليها وقوع النّكرة في سياق النّفي. أي لا أجد كائناً محرّماً إلاّ كونه ميتة إلخ أي إلاّ الكائن ميتة إلخ، فالاستثناء متّصل. والحصر المستفاد من النّفي والاستثناء حقيقي بحسب وقت نزول هذه الآية. فلم يكن يومئذ من محرّمات الأكل غير هذه المذكورات لأنّ الآية مكّيّة ثمّ نزلت سورة المائدة بالمدينة فزيد في المحرمات كما يأتي قريباً. والمسفوح المصبوب السائل، وهو ما يخرج من المذبح والمَنْحَر. أو من الفصد في بعض عروق الأعضاء فيسيل.

السابقالتالي
2 3