الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوۤاْ أَوْلَٰدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفْتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }

تذييل جُعل فذلكة للكلام السّابق، المشتمل على بيان ضلالهم في قتل أولادهم، وتحجير بعض الحلال على بعض من أحلّ له. وتحقيق الفعل بــــ { قد } للتّنبيه على أنّ خسرانهم أمر ثابت، فيفيد التّحقيق التّعجيب منهم كيف عَمُوا عمَّا هم فيه من خسرانهم. وعن سعيد بن جبير قال ابن عبّاس إذا سرّك أن تعلم جهلَ العرب فاقرأ ما فوق الثّلاثين ومائة من سورة الأنعام { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم } إلى { وما كانوا مهتدين }. أي من قوله تعالىوجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً } الأنعام 136 وجعلها فوق والثّلاثين ومائة تقريباً، وهي في العدّ السادسة والثلاثون ومائة. ووصف فعلهم بالخسران لأنّ حقيقة الخسران نقصان مال التّاجر، والتّاجر قاصد الرّبح وهو الزّيادة، فإذا خسر فقد باء بعكس ما عَمِل لأجلِه ولذلك كثر في القرآن استعارة الخسران لعمل الّذين يعملون طلباً لمرضاة الله وثوابه فيقعون في غضبه وعقابه، لأنَّهم اتّعبوا أنفسهم فحصلوا عكس ما تعبوا لأجله ذلك أنّ هؤلاء الّذين قتلوا أولادهم قد طلبوا نفع أنفسهم بالتخلّص من أضرارٍ في الدّنيا مُحْتَمَللٍ لحَاقُها بهم من جراء بَناتهم، فوقعوا في أضرار محقّقة في الدّنيا وفي الآخرة، فإنّ النّسل نعمة من الله على الوالدين يأنسون به ويجدونه لكفاية مهمّاتهم، ونعمة على القبيلة تكثر وتعتزّ، وعلى العالَم كلّه بكثرة من يعمره وبما ينتفع به النّاس من مواهب النّسل وصنائعه، ونعمة على النّسل نفسِه بما يناله من نعيم الحياة وملذاتها. ولتلك الفوائد اقتضت حكمة الله إيجاد نظام التّناسل، حفظاً للنّوع، وتعميراً للعالم، وإظهاراً لما في الإنسان من مواهبَ تنفعه وتنفع قومه، على ما في عملهم من اعتداء على حقّ البنت الّذي جعله الله لها وهو حقّ الحياة إلى انقضاء الأجل المقدّر لها وهو حقّ فطري لا يملكه الأب فهو ظلم بيّن لرجاء صلاح لغير المظلوم ولا يُضَرّ بأحد ليَنتفع غيره. فلما قتل بعض العرب بناتِهم بالوأْد كانوا قد عطّلوا مصالحَ عظيمة محقّقة، وارتكبوا به أضراراً حاصلة، من حيث أرادوا التخلّص من أضرار طفيفة غير محقّقة الوقوع، فلا جرم أن كانوا في فعلهم كالتّاجر الّذي أراد الرّبح فباء بضياع أصل ماله، ولأجل ذلك سمَّى الله فعلهم سفهاً، لأنّ السّفه هو خفّة العقل واضطرابه، وفعلهم ذلك سفه محض، وأيُّ سفه أعظم من إضاعة مصالح جمّة وارتكاب أضرار عظيمة وجناية شنيعة، لأجل التخلّص من أضرار طفيفة قد تحصُل وقد لا تحصل. وتعريف المسند إليه بالموصولية للإيماء إلى أنّ الصّلة علّة في الخبر فإنّ خسرانهم مسبّب عن قتل أولادهم. وقوله { سفهاً } منصوب على المفعول المطلق المبين لنوع القتل أنّه قتلُ سفه لا رأي لصاحبه، بخلاف قتل العَدوّ وقتْل القاتل، ويجوز أن ينتصب على الحال من { الذين قتلوا } ، وصفوا بالمصدر لأنّهم سفهاءُ بالغون أقصى السفه.

السابقالتالي
2