الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ }

استئناف آخر ناشىء عن جملةقل لمن ما في السماوات والأرض قل لله } الأنعام 12. وأعيد الأمر بالقول اهتماماً بهذا المقول، لأنّه غرض آخر غير الذي أمر فيه بالقول قبله، فإنّه لمّا تقرّر بالقول، السابق عبودية ما في السماوات والأرض لله وأنّ مصير كلّ ذلك إليه انتقل إلى تقرير وجوب إفراده بالعبادة، لأنّ ذلك نتيجة لازمة لكونه مالكاً لجميع ما احتوته السماوات والأرض، فكان هذا التقرير جارياً على طريقة التعريض إذ أمر الرسول ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ بالتبرّىء من أن يعبد غير الله. والمقصود الإنكار على الذين عبدوا غيره واتّخذوهم أولياء، كما يقول القائل بمحضر المجادل المكابر لا أجحد الحقّ لدلالة المقام على أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدر منه ذلك، كيف وقد علموا أنّه دعاهم إلى توحيد الله من أول بعثته، وهذه السورة ما نزلت إلاّ بعد البعثة بسنين كثيرة، كما استخلصناه ممّا تقدّم في صدر السورة. وقد ذكر ابن عطية عن بعض المفسّرين أنّ هذا القول أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ليجيب المشركين الذين دعوه إلى عبادة أصنامهم، أي هو مثل ما في قوله تعالىقل أفغير الله تأمروني أعبد أيّها الجاهلون } الزمر 64، وهو لعمري ممّا يشعر به أسلوب الكلام وإن قال ابن عطية إنّ ظاهر الآية لا يتضمّنه كيف ولا بدّ للاستئناف من نكتة. والاستفهام للإنكار. وقدّم المفعول الأول لــ { أتّخذ } على الفعل وفاعله ليكون موالياً للاستفهام لأنّه هو المقصود بالإنكار لا مطلق اتّخاذ الوليّ. وشأن همزة الاستفهام بجميع استعمالاته أن يليها جزء الجملة المستفهم عنه كالمنكر هنا، فالتقديم للاهتمام به، وهو من جزئيات العناية التي قال فيها عبد القاهر أن لا بدّ من بيان وجه العناية، وليس مفيداً للتخصيص في مثل هذا لظهور أنّ داعي التقديم هو تعيين المراد بالاستفهام فلا يتعيّن أن يكون لغرض غير ذلك. فمن جعل التقديم هنا مفيداً للاختصاص، أي انحصار إنكار اتّخاذ الولي في غير الله كما مال إليه بعض شرّاح «الكشاف» فقد تكلّف ما يشهد الاستعمال والذوق بخلافه، وكلام «الكشاف» بريء منه بل الحقّ أنّ التقديم هنا ليس إلاّ للاهتمام بشأن المقدّم ـــ ليليَ أداة الاستفهام فيعلم أن محلّ الإنكار هو اتّخاذ غير الله وليّاً، وأما مّا زاد على ذلك فلا التفات إليه من المتكلم. ولعلّ الذي حداهم إلى ذلك أنّ المفعول في هذه الآية ونظائرها مثلأفغير الله تأمروني أعبد } الزمر 64أغير الله تدعون } الأنعام 40 هو كلمة { غير } المضافة إلى اسم الجلالة، وهي عامّة في كلّ ما عدا الله، فكان الله ملحوظاً من لفظ المفعول فكان إنكار اتّخاذ الله وليّاً لأنّ إنكار اتّخاذ غيره وليّاً مستلزماً عدم إنكار اتّخاذ الله وليّاً، لأنّ إنكار اتّخاذ غير الله لا يبقى معه إلاّ اتّخاذ الله وليّاً فكان هذا التركيب مستلزماً معنى القصر وآئلاً إليه وليس هو بدالّ على القصر مطابقة، ولا مفيداً لما يفيده القصر الإضافي من قلب اعتقاد أو إفراد أو تعيين، ألا ترى أنّه لو كان المفعول خلاف كلمة غير لما صحّ اعتبار القصر، كما لو قلت أزيداً أتتّخذ صديقاً، لم يكن مفيداً إلاّ إنكار اتّخاذ زيد صديقاً من غير التفات إلى اتّخاذ غيره، وإنّما ذلك لأنّك تراه ليس أهلاً للصداقة فلا فرق بينه وبين قولك أتتّخذ زيداً صديقاً، إلاّ أنّك أردت توجّه الإنكار للمتّخذ لا للاتّخاذ اهتماماً به.

السابقالتالي
2 3 4