الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالُواْ هَـٰذِهِ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَٰمٌ لاَّ يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا ٱفْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }

عطف على جملةوكذلك زَيَّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤُهم } الأنعام 137 وهذا ضرب آخر من دينهم الباطل، وهو راجع إلى تحجير التّصرّف على أنفسهم في بعض أموالهم، وتعيين مصارفه، وفي هذا العطف إيماء إلى أنّ ما قالوه هو من تلقين شركائهم وسدنة أصنامهم كما قلنا في مَعْنى زيّن لهم شركاؤُهم. والإشارة بهذه وهذه إلى حاضر في ذهن المتكلّمين عند صدور ذلك القول وذلك أن يقول أحدهم هذه الأصناف مصرفها كذا، وهذه مصرفها كذا، فالإشارة من مَحكِيّ قولهم حين يَشْرعون في بيان أحكام دينهم، كما يقول القَاسم هذا لفلان، وهذا للآخر. وأجمل ذلك هنا إذ لا غرض في بيانه لأنّ الغرض التّعجيب من فساد شرعهم، كما تقدّم في قوله تعالىفقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } الأنعام 136 وقد صنّفوا ذلك ثلاثة أصناف صنف محجّر على مالكه انتفاعه به، وإنَّما ينتفع به من يعّينه المالك. والّذي يؤخذ ممّا روي عن جابر بن زيد وغيره أنَّهم كانوا يعيّنون مِن أنعامهم وزرعهم وثمارهم شيئاً يحجّرون على أنفسهم الانتفاع به، ويعيّنونه لمن يشاءون من سدنة بيوت الأصنام، وخدمتها، فتنحر أو تذبح عندما يرى من عُيِّنَت له ذلك، فتكون لحاجة النّاس والوافدين على بيوت الأصنام وإضافتهم، وكذلك الزّرع والثّمار تدفع إلى من عُيّنت له، يصرفها حيث يتعيّن. ومن هذا الصّنف أشياء معيَّنة بالاسم، لها حكم منضبط مثل البَحِيرة فإنَّها لا تُنحر ولا تُؤكل إلاّ إذا ماتَت حتف أنفها، فيحلّ أكلها للرّجال دون النّساء، وإذا كان لها دَرّ لا يشربه إلاّ سدنة الأصنام وضيوفهم، وكذلك السائبة يَنتفع بدَرّها أبناءُ السَّبيل والسَدنة، فإذا ماتت فأكْلُهَا كالبَحِيرة، وكذلك الحامي، كما تقدّم في سورة المائدة. فمعنى { لا يطعمها } لا يأكل لحمها، أي يَحرم أكل لحمها. ونون الجماعة في { نشاء } مراد بها القائلون، أي يقولون لا يطعمها إلاّ من نشاء، أي من نُعيِّن أن يطعمها، قال في «الكشاف» يعنون خدَم الأوثان والرّجال دون النّساء. والحرث أصله شق الأرض بآلة حديديّة ليزرع فيها أو يغرس، ويطلق هذا المصدر على المكان المحروث وعلى الأرض المزروعة والمغروسة وإن لم يكن بها حرث ومنه قوله تعالىأن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين } القلم 22 فسمّاه حرثاً في وقت جذاذ الثّمار. والحِجْر اسم للمحجّر الممنوع، مثل ذبح للمذبوح، فمنع الأنعام منع أكل لحومها، ومنع الحرث منع أكل الحبّ والتّمر والثّمار، ولذلك قال { لا يطعمها إلا من نشاء }. وقوله { بزعمهم } معترض بين { لا يطعمها إلاّ من نشاء } وبين { وأنعام حرمت ظهورها }. والباء في { بزعمهم } بمعنى عن، أو للملابسة، أي يقولون ذلك باعتقادهم الباطل، لأنَّهم لمّا قالوا { لا يطعمها } لم يريدوا أنَّهم منعوا النّاس أكلها إلاّ من شاءوه، لأنّ ذلك من فعلهم وليس من زعمهم.

السابقالتالي
2 3