الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }

عطفٌ على جملةوجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً } الأنعام 136 والتقدير جَعَلوا وزيَّنَ لهم شركاؤُهم قتلَ أولادِهم فقتلوا أولادَهم، فهذه حكاية نوع من أنواع تشريعاتهم الباطلة، وهي راجعة إلى تصرّفهم في ذُرّيَّاتهم بعد أن ذكر تصرّفاتهم في نتائج أموالهم. ولقد أعظم الله هذا التّزيين العجيب في الفساد الّذي حَسَّن أقبح الأشياء وهو قتْلهم أحبّ النّاس إليهم وهم أبناؤهم، فشبه بنفس التزيين للدّلالة على أنّه لو شاء أحد أن يمثّله بشيء في الفظاعة والشّناعة لم يَسَعْه إلاّ أن يشبهه بنفسه لأنَّه لا يبلغ شيء مبلغ أن يكون أظهرَ منه في بابه، فيلجأ إلى تشبيهه بنفسه، على حدّ قولهم «والسّفاهة كاسمها». والتّقدير وزيّن شركاء المشركين لكثير فيهم تزييناً مثل ذلك التّزيين الّذي زيّنوه لهم، وهُو هُو نفسه، وقد تقدّم تفصيل ذلك عند قوله تعالىوكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة 143. ومعنى التّزيين التّحسين، وتقدّم عند قوله تعالىكذلك زيَّنَّا لكلّ أمّة عملهم } في هذه السورة 108. ومعنى تزيين ذلك هنا أنَّهم خيَّلوا لهم فوائد وقُرَباً في هذا القتل، بأن يُلقوا إليهم مَضرّة الاستجداء والعار في النّساء، وأنّ النّساء لا يرجى منهنّ نفع للقبيلة، وأنَّهنّ يُجَبِّنّ الآباء عند لقاء العدوّ، ويؤثرن أزواجهن على آبائهن، فقتلهنّ أصلَحُ وأنفع من استبقائهن، ونحوَ هذا من الشّبه والتّمويهات، فيأتونهم من المعاني الّتي تروج عندهم، فإنّ العرب كانوا مُفرطين في الغيرة، والجموح من الغلب والعار كما قال النّابغة
حِذَاراً على أنْ لاَ تُنَالَ مَقَادَتِي ولا نسوتي حتَّى يَمُتْنَ حَرائراً   
وإنَّما قال { لكثير من المشركين } لأنّ قتل الأولاد لم يكن يأتيه جميع القبائل، وكان في ربيعة ومضر، وهما جمهرة العرب، وليس كلّ الآباء من هاتين القبيلتين يفعله. وأسند التّزيين إلى الشّركاء إمّا لإرادة الشّياطين الشّركاءِ، فالتّزيين تزيين الشّياطين بالوسوسة، فيكون الإسناد حقيقة عقليّة، وإمّا لأنّ التّزيين نشأ لهم عن إشاعة كبرائهم فيهم، أو بشرع وضعه لهم مَن وضَع عبادة الأصنام وفرض لها حقوقاً في أموالهم مثل عَمْرو بن لُحَي، فيكون إسناد التّزيين إلى الشّركاء مجازاً عقلياً لأنّ الأصنام سبب ذلك بواسطةٍ أو بواسطتين، وهذا كقوله تعالىفما أغنت عنهم آلِهَتُهم التي يَدْعُون من دون الله من شيء لمّا جاء أمر ربّك وما زادوهم غير تتبيب } هود 101. والمعنيّ بقتل الأولاد في هذه الآية ونحوها هو الوأْد، وهو دفن البنات الصغيرات أحياء فيمتن بغمّة التّراب، كانوا يفعلون ذلك خشية الفقر، كما قال تعالىولا تقتلوا أولادكم خَشيةَ إملاق } الإسراء 31، وخشيةَ أن تفتضح الأنثى بالحاجة إذا هلك أبوها، أو مخافة السّباء، وذكر في «الروض الأنُف» عن النّقّاش في «تفسيره» أنَّهم كانوا يئدون من البنات من كانت زَرقاء أو برشاء، أو شَيْماء، أو رَسْحاءَ، تشاؤما بِهنّ ــــ وهذا من خَوَر أوْهَامهم ــــ وأنّ ذلك قوله تعالى

السابقالتالي
2 3 4 5