الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَٰمِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }

عَطفٌ على نظائره ممّا حكيت فيه أقوالهم وأعمالهم من قولهوما قدروا الله حقّ قدره إذ قالوا ما أنزل اللَّه على بشر من شيء } الأنعام 91 وقولهوجعلوا لله شركاء الجنّ } الأنعام 100 وقولهوأقسموا بالله جَهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنُنّ بها } الأنعام 109 وقولهوإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } الأنعام 124 وما تخلّل ذلك فهو إبطال لأقوالهم، ورد لمذاهبهم، وتمثيلات ونظائر، فضمير الجماعة يعود على المشركين الّذين هم غرض الكلام من أوّل السّورة من قولهثم الذين كفروا بربّهم يعدلون } الأنعام 1. وهذا ابتداءُ بيان تشريعاتهم الباطلة، وأوّلُها مَا جعلوه حقّاً عليهم في أموالهم للأصنام ممّا يشبه الصّدقات الواجبة، وإنَّما كانوا يوجبونها على أنفسهم بالالتزام مثل النّذور، أو بتعيين من الّذين يشرعون لهم كما سيأتي. والجعل هنا معناه الصّرف والتّقسيم، كما في قول عمر في قضيّة ما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم المختصم فيها العبّاس وعليّ رضي الله عنهم «فيجعَلُه رسولُ اللَّه مجعل مالِ اللَّه» أي يضعه ويصرفه، وحقيقة معنى الجعل هو التّصيير، فكما جاء صيّر لمعان مجازية، كذلك جاء جعل، فمعنى { وجعلوا لله } صرفوا ووضعوا لله، أي عيّنوا له نصيباً، لأنّ في التّعيين تصييراً تقديرياً ونقلاً. وكَذلِك قول النّبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي طلحةَ " أرى أن تجعلَها في الأقربِين " أي أن تصرفها إليهم، و { جعل } هذا يتعدّى إلى مفعول واحد، وهذه التّعدية هي أكثر أحوال تعديته، حتّى أنّ تعديته إلى مفعولين إنَّما ما في الحقيقة مفعولٌ وحالٌ منه. ومعنى { ذرأ } أنشأ شيئاً وكثّره. فأطلق على الإنماء لأنّ إنشاء شيء تكثير وإنماء. و { ممّا ذرأ } متعلّق بــــ { جَعلوا } ، و { من } تبعيضية، فهو في معنى المفعول، و { مَا } موصولة، والإتيان بالموصول لأجل دلالة صلته على تسفيه آرائهم، إذ ملَّكوا الله بعض مَلْكه، لأنّ ما ذرأه هو مِلْكُه، وهو حقيق به بلا جَعْل منهم. واختيار فعل { ذرأ } هنا لأنّه الّذي يدلّ على المعنى المراد، إذ المقصود بيان شرائعهم الفاسدة في نتائج أموالهم. ثمّ سيبيّن شرعهم في أصول أموالهم في قولهوقالوا هذه أنعام وحرث حجر } الأنعام 138 الآية. و { من الحرث والأنعام } بيان { ما } الموصولة. والحرثُ مراد به الزّرع والشّجر، وهو في الأصل من إطلاق المصدر على اسم المفعول، ثمّ شاع ذلك الإطلاق حتّى صار الحرث حقيقة عرفية في الجنّات والمزارع، قال تعالىأن اغْدُوا على حرثكم إن كنتم صارمين } القلم 22. والنّصيب الحظ والقِسْم وتقدّم في قوله تعالىأولئك لهم نصيب ممّا كسبوا } في سورة البقرة 202، والتّقدير جعلوا لله نصيباً ولغيره نصيباً آخر، وفهم من السّياق أنّ النّصيب الآخر لآلهتهم. وقد أفصح عنه في التّفريع بقوله { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا }.

السابقالتالي
2 3