الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ }

{ وَرَبُّكَ ٱلْغَنِىُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ }. عُطفْت جملة { وربك الغني } على جملةوما ربُّك بغافل عمّا يعملون } الأنعام 132 إخباراً عن علمه ورحمته على الخبر عن عمله، وفي كلتا الجملتين وعيد ووعد، وفي الجملة الثّانية كناية عن غناه تعالى عن إيمان المشركين وموالاتهم كما في قولهإن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم } الزمر 7، وكناية عن رحمته إذْ أمهل المشركين ولم يعجّل لهم العذاب، كما قالوربُّك الغفور ذو الرّحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب } في سورة الكهف 58. وقوله { وربك } إظهار، في مقام الإضمار، ومقتضى الظاهر أن يقال وهو الغنيّ ذو الرّحمة، فخولف مقتضى الظاهر لما في اسم الربّ من دلالة على العناية بصلاح المربوب، ولتكون الجملة مستقلّة بنفسها فتسير مسرى الأمثال والحِكَم، وللتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم. والغنيّ هو الّذي لا يحتاج إلى غيره، والغنيّ الحقيقي هو الله تعالى لأنَّه لا يحتاج إلى غيره بحال، وقد قال علماء الكلام إنّ صفة الغِنَى الثّابتة لله تعالى يَشمل معناها وجوب الوجود، لأنّ افتقار الممكن إلى الموجد المختارِ، الّذي يرجح طَرف وجوده على طرف عدمه، هو أشدّ الافتقار، وأحسب أنّ معنى الغِنى لا يثبت في اللّغة للشّيء إلاّ باعتبار أنّه موجود فلا يشمل معْنى الغنى صفة الوجود في متعارف اللّغة. إلاّ أن يكون ذلك اصطلاحاً للمتكلّمين خاصّاً بمعنى الغِنى المطلق. وممّا يدلّ على ما قُلتهُ أنّ من أسمائه تعالى المغني، ولم يُعتبر في معناه أنَّه موجد الموجودات. وتقدّم الكلام على معنى الغنيّ عند قوله تعالىإن يكن غنياً أو فقيراً } في سورة النّساء 135. وتعريف المسند باللاّم مقتض تخصيصه بالمسند إليه، أي قصر الغنى على الله، وهو قصرٌ ادّعائي باعتبار أنّ غنى غير الله تعالى لمّا كان غنى ناقصاً نُزّل منزلة العدم، أي ربّك الغنيّ لا غيره، وغناه تعالى حقيقي. وذكر وصف الغنيّ هنا تمهيد للحكم الوارد عقبه، وهو { إن يشأ يذهبكم } فهو من تقديم الدّليل بين يدي الدّعوى، تذكيراً بتقريب حصول الجزم بالدّعوى. و { ذو الرحمة } خبر ثان. وعدل عن أن يوصف بوصف الرّحيم إلى وصفه بأنّه { ذو الرحمة } لأنّ الغنيّ وصف ذاتي لله لا ينتفع الخلائق إلاّ بلوازم ذلك الوصف، وهي جوده عليهم، لأنَّه لا ينقص شيئاً من غناه، بخلاف صفة الرّحمة فإنّ تعلّقها ينفع الخلائق، فأوثرت بكلمة { ذو } لأنّ { ذو } كلمة يتوصّل بها إلى الوصف بالأجناس، ومعناها صاحب، وهي تشعر بقوّة أو وفرة ما تضاف إليه، فلا يقال ذو إنصاف إلاّ لمن كان قوي الإنصاف، ولا يقال ذُو مال لمن عنده مال قليل، والمقصُود من الوصف بذي الرّحمة، هنا تمهيد لمعنى الإمهال الّذي في قوله { إن يشأ يذهبكم } ، أي فلا يقولنّ أحد لماذا لم يُذهب هؤلاء المكذّبين، أي أنَّه لرحمته أمهلهم إعذاراً لهم.

السابقالتالي
2