الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ }

هذا من جملة المقاولة الّتي تجري يوم الحشر، وفصلت الجملة لأنَّها في مقام تعداد جرائمهم التي استحقّوا بها الخلود، إبطالاً لمعذرتهم، وإعلاناً بأنَّهم محقوقون بما جُزوا به، فأعاد نداءهم كما ينادَى المندّد عليه الموبَّخ فيزداد روْعاً. والهمزة في { ألم يأتيكم } للاستفهام التّقريري، وإنَّما جعل السؤال عن نفي إتيان الرّسل إليهم لأنّ المقرّر إذا كان حاله في ملابسة المقرّر عليه حالَ من يُظنّ به أن يجيب بالنَّفي، يؤتى بتقريره داخلاً على نفي الأمر الّذي المراد إقراره بإثباته، حتّى إذا أقرّ بإثباته كان إقراره أقطع لعُذره في المؤاخذة به،كما يقال للجاني ألَسْت الفاعل كذا وكذا، وألست القائل كذا، وقد يسلك ذلك في مقام اختبار مقدار تمكّن المسؤول المقرّر من اليقين في المقرّر عليه، فيؤتى بالاستفهام داخلاً على نفي الشّيء المقرّر عليه، حتىّ إذا كانت له شبهة فيه ارتبك وتلعثم. ومنه قوله تعالىوأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم } الأعراف 172، ولمّا كان حال هؤلاء الجنّ والإنس في التمرّد على الله، ونبذ العمل الصّالح ظهرياً، والإعراض عن الإيمان، حالَ من لم يطرق سمعه أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، جيء في تقريرهم على بعثَة الرّسل إليهم بصيغة الاستفهام عن نفي مجيء الرّسل إليهم، حتّى إذا لم يجدوا لإنكار مجيء الرّسل مساغاً، واعترفوا بمجيئهم، كان ذلك أحرى لأخذهم بالعقاب. والرّسل ظاهره أنّه جمع رسول بالمعنى المشهور في اصطلاح الشّرع، أي مرسل من الله إلى العباد بما يرشدهم إلى ما يجب عليهم من اعتقاد وعمل، ويجوز أن يكون جمع رسول بالمعنى اللّغوي وهو من أرسله غيره كقوله تعالىإذْ جاءها المرسلون } يس 13 وهم رسل الحواريين بعد عيسى. فوَصْف الرّسل بقوله { منكم } لزيادة إقامة الحجّة، أي رسل تعرفونهم وتسمعونهم، فيجوز أن يكون مِن اتِّصالية مثل الّتي في قولهم لَسْتُ منك ولستَ مِنِّي، وليست للتّبعيض، فليست مثل الّتي في قولههو الذي بعث في الأمّيين رسولاً منهم } الجمعة 2 وذلك أنّ رسل الله لا يكونون إلاّ من الإنس، لأنّ مقام الرّسالة عن الله لا يليق أن يجعل إلاّ في أشرف الأجناس من الملائكة والبشر، وجنسُ الجنّ أحَطّ من البشر لأنَّهم خلقوا من نار. وتكون من تبعيضية، ويكون المراد بضمير { منكم } خصوص الإنس على طريقة التغليب، أو عود الضّمير إلى بعض المذكور قَبله كما في قوله تعالىيخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } الرحمٰن 22 وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر الملح. فأمّا مؤاخذة الجنّ بمخالفة الرّسل فقد يخلق الله في الجنّ إلهاماً بوجوب الاستماع إلى دعوة الرّسل والعمل بها، كما يدلّ عليه قوله تعالى في سورة الجنّقُل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنَّا سمعنا قُرآناً عجبا }

السابقالتالي
2 3 4